تختلفُ أنواع الأدب، وتتعددُ أساليبَ الكُتاب.. تختـلِطُ الأفكار الجديدة بالقديمة والتقليدية بالمُبتكرة.. ولكِنني أؤمن بأنّ كل فِكرة من أفكارِنا تُعتبرُ بمثابةِ حياة كامِلة، حياةٌ استثنائية.. واليومَ، سآخذكم معي في جولةٍ سريعة حول إحدى تلك الأفكار.. سنتراقصُ على أوتارِالجريمةِ ولَحن الغُموض.. سنُلقي نظرةً ثاقِبة على الأدب البوليسي؛ أو كما يُطلق عليه البعض.. أدب الجريمة. بخُطـًى وئيدة ولكـِن ثابتة.. سنخطو باتجاهِ القاتِل والمقتول، باتجاه الضحية والشُهود وبالأكثر، باتجاه الجريمة وما وراءها من مجهول…
الأدب البوليسي هو قصة أو رُواية تقوم على اكتشاف رجل من رجال البوليس أو التحرّي جريمة..تبدو كامِلة، وفي هذا النوع من الرُوايات يبدأ المؤلف في التقدم نحوَ الحل تارِكًا للقارئ المجال في وضع كل الاحتمالات والشك في كل الشخصيات المُتاحة أمامه في الرُواية.. وبطريقةٍ مُشوقة تُثير فضولَ القارئ وتحبِسُ أنفاسَه؛ يُزاح الستار عن المُجرِم الحقيقي. ويُعتبر “إدغار آلان بو” هو مؤسس هذا النوع من الأدب، حيث كتب قصته الأولى من نوعِها آنذاك “جرائم شارِع مورغ” في بداية القرن التاسع عشر والتي لقت إعجابًا كبيرًا من مُختلف الناس. وقد حظِيَ الأدب البوليسي بمرحلة من التقدم والتطور في أعقاب الحرب العالمية البارِدة والحرب العالمية الثانية؛ حيث ساعدت أعقاب هذه الحروب على تغذية الرُواية البوليسية بشكلٍ كبير.. فسمح ذلك للعديد من الكُتاب بالانخراطِ في هذا المجال في مطلِع القرن العشرين.
يفتقر الأدب العربي إلى جنس هام في خريطته الثقافية؛ ألا وهو “أدب الجريمة” فرُغم انتشاره في الغرب بنسبة كبيرة إلا أنه بقى مسكوتًا عنه في الوطن العربي ولا أحد قد توصلَّ إلى الأسباب التي دعَت عدم ظُهور مثل هذا الجنس الأدبي في الثقافة العربية مع أن رُوايات التجسس قد ظهرت بشكل واسِع وقد تحول العديد منها إلى أفلام أو مسلسلات مثل مُسلسَل “رأفت الهجان” للأديب “صالِح مُرسي” الذي منح الرواية التجسسية نكهةٌ مُختلفة. ولابُدّ من أن نذكُر ما كتبَه د.نبيل فاروق؛ فقد اقتحم عالم الجريمة بسلسلته “رجُل المُستحيل” واستطاعَ كسر تلك القاعِدة التي تُنفي وجود أدب الجريمة ضِمن الأدب العربي. ومن بابِ العِلم بالشيء، فهُناك فرقٌ شاسِعٌ بين الأدب البوليسي وأدب المُخابرات.. فالأول يتخصصُ بالجريمةِ في حياتِنا اليوميّة بينما يتخصصُ الآخر بقصصِ الجواسيسِ وقُدرتهم على التخفي والعمل في بلادِ العدوّ وخاصةً في أوقاتِ الحُروب.
حينَما نتكلمُ عنِ الأدبِ البوليسي ونتعمقُ أكثَر في تفاصيلِ الجريمة؛ يخطُر اسمُها إلى أذهانِنا جميعًا ونتذكرُ ذِكرياتُنا مع صفحاتِ رُواياتَها التي كانت تُقلّب بسُرعةِ البرق.. لطالما لفَت أسلوبُها الراقي الأنظار.. ولطالَما أذهلت العالَم بقوةِ حبكةِ كل رُوايةٍ على حِدى مع اختلافِ القصصِ والشخصيات؛ إنها الرائعة – أجاثا كريستي– ذات الأسلوب الأخاذّ وجرائمُها التي خَطّت لتُبقينا جميعًا مذهولين مع نهايةِ كل رُواية.. تجعلُنا نتوقع من لا يُتوقع ثُم تُخيّب ظننا من جديد. نشأتُ وفي عقلي طيفُ “المُحقق بوارو” يحوم، وملامِحُه التي لطالَما تخيلتُها صارِمة مع بعضِ الذكاءِ السابحِ في عينيه.. استطاعت نحتَ كل الشخصياتِ بدقة وتجسيدُها في عقولِنا وكأنها باتت جُزءًا لا يتجزأُ من كيانِنا.. عِشنا مع أبطالِ كل روايةٍ من رُواياتِها حكاياتٍ مُختلفة وأحداثًا لا تُعَدّ ولا تُحصَى. استطاعت أجاثا وبِجدارة إثبات أن الأدب البوليسي فنٌ لا يقدِر على كتابتِه أي شخص.. أن تُحكِمَ الحبكة وتحلُها في آنٍ واحِد قد يكون من أصعب الأمور.. وأجاثا كانت من أوائل الأدباء الذين سلكوا هذا المجال؛ فاستطاعت على مدارِ سنواتِها الخمسةِ والثمانين منحَنا ٦٦ رُواية بوليسية، بالإضافة إلى بعضِ القِصصِ التي اختلف تصنيفُها فبعضُها اتخذ الرومانسية مسلكًا له والبعض الآخر كان يقرُب إلى الخيال. ولأنني لم أستطع أن تحديدَ أفضلهم، قررتُ إعطاءكم لمحةً بسيطة عن أقربِ رواياتِها إلى قلبي.. والتي قد عُنوِنَت “ثمّ لم يبقى أحد”.
تبدأ الرُواية بدعوةِ عشرةِ أشخاص غُرباء عن بعضِهم البعض، دُعوا جميعًا إلى جزيرة نائية على شاطئ ديفون في جنوب أمريكا.. وفورَ وصولهم إلى الجزيرةِ المهجورَة؛ يتصاعدُ إلى مسامِعهم صوتَ غراموفون غامِض ليُلقي على مسامِعِهم حقائـقَ مُثيرة عن كلٍّ منهم، وقد اشتركت تلك الحقائق في كون جميعَها تؤكدّ على تورطّهم في جريمةٍ بشكلٍ أو بآخر.. فعلى سبيلِ المِثال، صاحَ الغراموفون بتورطّ الطبيب آرمسترونغ بموتِ مريضةٍ له بعملّية جراحيّة قد أجراها في الماضي وهو ثَمِل، أما وارغريف فقد تورطّ بالحُكمِ على مُتهمٍ برئٍ بالإعدامِ.. وعلى نفسِ المِنوال، يستمرُ الغراموفون في استرسالِ جرائمِهم واحِدةً تِلو الأخرى. وفي الليلةِ الأولى.. يموتُ أنتوني بالسم؛ وفي صباحِ اليومِ التالي إذ بالسيدةِ روجرز لا تستيقِظ.. وعندما بدأوا في مُقارنةِ أسبابِ وظروفِ استضافتهم جميعًا في تلك الجزيرة المُرعِبة، يكتشفون أن جميعَهم قد جاءوا لأسباب مُزيفة وغير منطقية.. أما فِكرة الهُروب فقط تلاشت قبل حتى التفكير بها لأن كل وُسُل التواصُل مع العالم الخارجيّ قد قُطِعَت فجأة.. وأدركوا حينها أنهم عالِقون في تلك الجزيرةِ المهجورة ولن يتمكنوا من الخُروجِ منها. ويتوالى موت الشخصيات لأسبابٍ غامِضة وفي شكلٍ يتبّعُ تلك الأغنية التي لاحظوا وجودَها على جِدارِ غُرفةِ كُـلًّا منهم.. أما على الطاولة فكان يوجَد عشرةِ تماثيل، والآن فقط لاحظوا اختفاءَ اثنينِ منهم.. تتناقصُ التماثيلُ مع موتِ كلٍّ منهم.. وتتكررُ الأغنية التي قدْ سكنت على الجِدار…
رُواية “ثم لم يبقى أحد” يُمكِن أن أجزِمَ أنها من أروَعِ ما قرأت، كفِكرة وكإسلوب.. كل شيء بها مُمتِعًا، تجعلُكَ تواقًا لمعرفةِ ما سيحدث.. من سيُقتَل ومن سيبقى، لأنها ستُبقيكَ مُشوقًا حتى اللحظةِ الأخيرة. وقد حصلت الرُواية على تقييم 4.3 من موقِع .“Goodreads”
ليُبهِرُنا الكاتِب الفرنسي “ميشيل بوسي” من بعدِها بعدّةِ رواياتٍ ذي طابِعٍ جرميّ هي الأخرى؛ كان أشهرُهم “نيلوفر الأسوَد” والتي لم يطل الوقت حتى التقطّها عيناي؛ فلطالما وقعتُ بحُبِّ تلك العناوين المُبتَكرة والأفكار التي لم تُستَهلـَك.. وبالفعل، فلم يكن مُحتوى الرُواية أقل ابتكارًا من اسمِها.. “نيلوفر الأسود” رُوايةٌ مُختلفة بكلِّ ما فيها.. رُغمَ أن ترجَمتها قد أفقدَت جُزءًا كبيرًا من رونقِها إلا أنها لا تزال من أفضلِ ما قرأتُ حتى يومي هذا.. والآن، سآخذكم في رِحلةٍ قصيرة بين صفحاتِها وأجوائها.
تحت سماءِ “جيفرني” التي تُعدُّ من أشهرِ معالِمَ فرنسا وأغناهُم تُراثًا، عِشنَ ثلاثـهُنَّ وترَعرَعن؛ ثلاث نساءٍ كُنَّ يعِشْنَ تحتَ سمائها المُلبدةِ بالغيوم أغلبَ الوقت.. أعمارُهنَّ مُتفاوِتة تمامًا، وصِفاتُهنَّ لا تكادُ حتى تقرُب إلى التشابُه. كانت الأولى قد تخطّت الثمانين من عُمرِها.. أرملةٌ ولكـِن بها من الشرِّ ما يكفي بلدةٍ كامِلة.. أما الثانية فكانت سيّدة على مشارِفِ الأربعين.. ولكـِن كل سنواتِ عُمرِها تلكَ لم تستطِع أن تُلقنها شيئًا سِوى الكذب؛ تكذِبُ وهي تنظُرُ إلى داخِلِ عينيكَ مُباشرة بلا خجل. والثالثة فكانت أصغرهم، فتاةٌ في الحادِية عشر من عُمرِها ولكن الأنانية قد استطاعت أن تُسيطِرَ عليها من كل صوبٍ.. فاتِنة، ولكـن أفكارُها دائمًا ما تتمحورُ حولَها..هي وفقط!
ورُغم كل تلك الفروقات، رُغم ذلك الاختلاف الشاسِع الذي قد جلى بوضوحٍ بين ثلاثتهُنّ إلا أن شيئًا ما خفيًا كان يجمعهُنّ.. نُقطةٌ مُشتركة كُنّ يتقاسمنَها.. وسِرٌ نوعًا ما، فثلاثـتهن كنَّ يحلُمنَ بالمُغادرة! أجل كما سمعت، يحلُمنَ بمُغادرة جيفرني.. تلك اليافِعة التي تخطِفُ الأنظار.. تلك القريةِ التي يُثيرُ اسمَها الرغبة لدى كثيرٍ من الناس في اجتيازِ العالم بأكمله فقط من أجل التنزه في شوارِعها لبِضعةِ ساعات.. أمرٌ غريب، الرغبةُ في مُغادرةِ جيفرني؟ وكأنها فِكرةٌ يستحيلُ على العقلُ تصديقَها أو حتى تقبلِها. بين أصغرهُنَّ وأكثرهُنَّ موهِبةً وبين أوسطهنَّ وأكثرهنَّ مُكرًا.. وبين أكبرهنَّ وأكثرهنَّ تصميمًا.. من تظنه قد استطاع أن يُفلت بحلمِه ذاك؟ أو بجريمتِه؟
“لا يوجَد حُب سعيد؛ عدا الذي تعني به ذاكرتُنا”
عِبارةٌ كتبها بطلُ روايتنا المجهول قبل وفاتِه، ليُدخِل كل الشخصيات التي في الرواية في دوامةِ مضامين تلك العِبارة.. في روايةٍ بوليسية قد استندت بشكل أساسيّ إلى دافِع الحُب لارتكاب الفاعِل الجريمة.. مُتكئًا فيها على الفن والشِعر، فلوحاتِ مونيه عن النيلوفر وأشعار أرجون كانتا المُحرك الخفي الذي لجأ له القاتِل العاشِق في توجيه مساراتٍ أخرى تُبقيه بعيدًا عن الأعينِ، وتقربه في الوقتِ نفسِه من المحبوب.
دَمجَ ميشيل في هذه الرُواية بين الأحداث الحقيقية والخيالية معًا مما جعَلها مُمتعة بشكلٍ خاص.. فهي تملِكُ إيقاعًا مُنفردًا لن تجده في أي رُوايةٍ أخرى، فالقارئ يتوقُ لمعرفةِ الحقائق.. خاصةً تلك التي تتعلقُ بالأماكن والشخصياتِ التاريخية؛ فقد تُصبح هذه الرُواية كنزًا ثمينًا لأولئك المهتمون بالفن بكل أشكالِه والثقافة الفرنسية بشكلٍ عام.. فهي رُواية تعجُّ بالثقافةِ من كل جانب.. رواية بوليسية ولكـِن غير تقليدية بالمرة، ستأخذك معها إلى عوالِمَ مُختلفة وستعش مع كل بطلٍ حكايةً فريدةً من نوعِها.. ستشك بالجميع ولكن سيفاجئك ميشيل في النهاية بأن توقعاتك كلها قد رُكِنَت على رفَّ التخمينات الخاطئة من جديد. ومع آخر سُطورِ الرُواية، ستتغيرُ نظرتك للأمور مائة وثمانون درجة، للأحداثِ.. وللشخصياتِ تحديدًا، وهذا في رأيي يرجِع للحبكة العبقرية التي وضعها ميشيل.. فهي رُوايةٌ استثنائية بكل ما تحمِلُه الكلمة من معنى.. امتزج بها الأدب بالفنّ بالجريمة، وقد حصلت على تقييم “.Goodreads3.4 من
وفي الخِتام، أتمنى أن أكون قد وفّيتُ هذا الموضوع حقَّه، ولا تنسوا أن تُخبرونا أي روايةٍ قد أعجبتكم فكرتها، وشعرتُم بأنها قد لمست ولو جزءًا بسيطًا من ذواتِكم!