الفلسفة مَن مِنا لم يسمع بتلك الكلمة من قبل، فلسفة، وهي كلمة لاتينية من مقطعين، الأول philo، أي مُحب أو محبة، أما المقطع الثاني Sophia، أي الحكمة، وتُصبح الكلمة philosophe، مُحب الحكمة، انتشرت تلك الكلمة في كل أنحاء العالم حتى صارت الفلسفة هي أم العلوم.
ورآها البعض أنها أول العلوم التي عرفها الإنسان لأنها مرتبطة به وعلاقته بالطبيعة من حوله، فهي قديمة قِدم الإنسان، وهناك كتب فلسفة عشقها القراء وأصبحت هي الملهم لهم ولكن أين ومتي ظهرت الفلسفة هذا ما سوف نتعرف عليه بالتفصيل.
الفلسفة كما يقول دكتور يوسف زيدان: “إنها سؤال، مُجرد سؤال”، حين يطرح الإنسان على نفسه سؤالًا في سبيل البحث عن الحقيقة، والحقيقة هنا تكمن في المعرفة والإدراك، فالسؤال بداية الإجابة، ولذلك فالفلسفة تولي أهمية كبيرة لمنهج السؤال، لكن هل تعرف قصة الفلسفة؛ متى وأين ظهرت؟!
يرجع تاريخ الفلسفة إلى القرن السادس والسابع قبل الميلاد، وبالتحديد في مدينة أيونيا، وهي إحدى مدن الحضارة اليونانية القديمة، ثم اتسعت رقعة الفلسفة لصقلية وغرب آسيا الصغرى، فكانت انطلاقة الفلسفة من اليونان.
وقد ظهرت الفلسفة أول الأمر في القرن السادس قبل الميلاد مع الفلاسفة الأوائل وهم (طاليس، هرقليطس، انكسمندر، فيثاغورث)، وهؤلاء الفلاسفة نُطلق على عصرهم ما قبل سُقراط.
كانت الفلسفة ما قبل سقراط تهتم كل الاهتمام بالطبيعة والكون أكثر من اهتمامها بالإنسان وذاته، ومن هؤلاء كان طاليس وهو أول من أشار إلى أن الماءَ العنصرُ الرئيس في تكوين الإنسان، حيث اعتقد أن الماء هو أصل كل شيء، والمبدأ النظري الأول لتكون الطبيعة.
ومِن الحُكماء المشهورين أيضاً هرقليطس، وهو الذي قال أنّ أَصل العالَم من نار، والفيلسوف أناكساغوراس الذي اكتشف العِلّة المُحرِّكة؛ وهي العقل، والفيلسوف أنكسيمانس الذي قال أنّ أَصل العالم هو الهواء.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الآراء، والأقوال تمثل حدسًا فلسفيًا خاليًا من الخيال، والخُرافة، حيث ساهمت بشكل كبير في الوصول إلى المُسلَّمات التي تُفسر أصل الطبيعة، والوجود، فكل الفلسفات التي سادت فيما بعد كانت ترى أن عنصر الكون خمسة عناصر: لماء، الهواء، النار، التراب، الدخان.
وكانت الفلسفة هي السبب الرئيسي في ظهور علوم أُخرى تقوم على مبدأ العقل، كالرياضيات والهندسة والأحياء، والأخيرة – أي الأحياء- ظهرت وازدهرت على يد أنكسمندر والذي رأى أن الكون كله كان عبارة عن مادة لزجة مع حرارة الشمس ومرور الزمان.
خرج منها كائنات أولية، وهو ما يُعد إشارة أولى لفكرة التطور، ومن أشهر علماء تلك الحقبة؛ فيثاغورث، وهو أول من أطلق لفظة فيلسوف أي محب للحكمة كما هو مذكور أعلاه، وبعد تلك الحقبة جاءت مرحلة انحطاطية أشبه ما تكون بمرحلة انتقالية، ممثلة في السفسطائيين.
هؤلاء أعلوا من قيمة الأنا ولكن بشكل مشوه قليلًا، فجعلوا الأخلاق نسبية تمامًا، فما يراه الفرد (كفرد) أنه خير، فهو خير، وما يراه شر (كفرد) فهو شر، ومن هؤلاء الفلاسفة: باتو جوراس، والذي قال أن الإنسان هو معيار كل الأشياء جميعًا.
ثم جاء سقراط والذي أحدث ثورة في الفكر الفلسفي بشكل عام، فيقول الأستاذ نجيب محفوظ في إحدى مقالاته عن الفلسفة ما قبل سقراط:
إن همَّ الفلاسفة الذين سبقوا سقراط كان موجهًا إلى الكون وإيجاد السبب الأول الذي تنشأ عنه واتخذ منه مظاهره المختلفة، وأتى من بعد هؤلاء السفسطائيون الذين هدموا البحث الموضوعي بشكوكهم ووضعوا مكانه البحث الذاتي واتخذوه أساسًا يُشيدون عليه قواعد الأخلاق وأُسس العلوم.
كان من نتيجة هذه الذاتية أن اضطربت نظريات الأخلاق وشُوهت الحقائق فقد كان يصح في نظرهم أن يقتنع الفرد بحقيقة ما دام يراها حقيقة ولو اختلف الناس معه وكان اختلافهم صوابًا وحكمة.
تميزت فلسفة سقراط بالنقد الشديد واللاذع والسخرية من السفسطائيين حتى حُوكم بالموت، وكانت فلسفته تدور حول القيم والأخلاق، حتى صار يُعد أول من أرسى قواعد فلسفة الأخلاق في العالم، كما أنه رفض نسبية الأخلاق وتجزئتها ورآها مطلقة غير قابلة للنقاش.
ومن بعده جاء أفلاطون والذي بحث في جوهر الأشياء وأساسها، ووضع لنا مدينته ورؤيته الفاضلة المثالية والتي ربطها بالرؤية الميتافيزيقية – أي الما وراء.
إلى أن جاء أرسطو والذي نظر إلى العقل بجدية، ورفع من شأنه، وحركه وفقًا للواقع المحيط به، وبحث في مبادئ ومُسميات الأمور البديهية، إلى أن أُطلق عليها اللغة الأرسطية، كما وضع علم المنطق.
برع في البلاغة والشعر والموسيقى، فلُقب بمعلم البشرية، وكان أستاذًا للإسكندر الأكبر، الذي أخذ ينشر أفكار معلمه في كل مكان مع غزواته، وبعد أرسطو لم يأتِ أي جديد في الفلسفة، ولم يُضف أي تغيير على منهج الفلاسفة الثلاثة:
سقراط، أفلاطون، أرسطو، إلى أن انتقلت الفلسفة للعالم العربي الإسلامي وظهر كبار الفلاسفة المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ابتداءً بأبي إسحاق يعقوب الكندي، والذي نشر الفلسفة وترجم كتب اليونانيين إلى العربية.
مرورًا بالفيلسوف الرابع ابن سينا، والذي يُعد هو الفيلسوف المُكمل للفلاسفة الأوائل (سقراط، أفلاطون، أرسطو)، فقد أحاطت أفكاره كل المجالات الإنسانية من النفس والروح إلى العقل ثم الطب والفقه والحديث، فقد كان فيلسوفًا موسوعيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
انتهاءً بالفيلسوف ابن رشد في القرن الثامن الهجري، والذي ازدهرت الفلسفة على يدَيه، خاصة بعدما قدم شروح أرسطو وأفكاره ناقلًا إياها عن اللغة اليونانية واللاتينية إلى العربية.
ومن الحضارة العربية انتقلت الفلسفة إلى الحضارة الغربية على يد توما الإكويني، والقديس أوغطسين والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني، والذين عملوا على ترجمة كتابات العرب إلى اللغات اللاتينية، ثم اللغات الأوروبية مع بداية عصر النهضة والثورة الصناعية.
ليتعرف الناس على كتابات كل من ابن خلدون وابن سينا وابن رشد والكندي، فظهر فلاسفة عصر النهضة الذين ربطوا الفلسفة بالعلم والعقل والحرية، ومن هؤلاء مُبشر عصر النهضة الأول “إيمانويل كانط”، وديكارت وأوجست كونت وفرانسيس بيكون وفولتير وجان جاك روسو.
ثم يبدأ العصر الحديث من الفلسفة مع اسبينوازا والذي آمن بوحدة الوجود، وليبنتز، وديفيد هيوم، وشوبنهاور، وهيغل، وكارل ماركس، ونيتشة، وهنري بركسون، وصولًا لعصر ما بعد الحداثة حيث الفلاسفة المعاصرين كجاك دريدا، وهيدغيرد، وميشيل فوكو، ودوركاهيم، وماكس فيبر.
وأخيرًا، فقد مرت الفلسفة بالعديد من المراحل حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، مرت أول الأمر بمراحل النمو والنشوء (ما قبل سقراط)، ثم أخذت في الانحدار والانحطاط (المرحلة الانتقالية – مرحلة السفسطائيين).
ثم انتعشت بالثورة في عهد سقراط وتلامذته، لتجوب العالم من خلال الحضارة الإسلامية، ثم عصر النهضة وتشهد الانتعاش الحقيقي إبان ذلك العصر، وظهور كتب علمية فلسفية لاقت اعجاب الكثير منهم في ذلك الوقت، وهنا نلاحظ الانحدار مُجددًا في عصر ما بعد الحداثة.
الآن تعيش الفلسفة أسوأ مراحل حياتها، فهي ليست في مرحلة انتقالية فحسب، بل تعيش مرحلة سفسطائية جديدة، حيث أخذت الفلسفة في الاحتضار، حين اكتفت – مثل السفسطائيين من قبل – بالتشكيك والنقد الحاد لكل ما هو قائم في العالم من حولنا.