كارل ماركس بالتأكيد سمعت بهذا الاسم من قبل، بل والمؤكد أنك قد رأيت صورة له من قبل؛ حيث يظهر رجلٌ عظيمُ الذقن، كثيفُ الشعر، يكاد لا يُرى من وجهه سوى عينيه، كأن ذقنه نبت منها وجهٌ، لا العكس!
“التاريخ يُكرر نفسه؛ أولًا كمأساة، وثانيًا كمهزلة”
(إمضاء كارل ماركس)
ولعلك سمعت ببعض المُصطلحات كالإمبريالية والشيوعية والرأسمالية والإيديولوجية والدوغمائية، كلها مُصطلحات لابد وأن تكون قد مررت عليها، ولو حتى مرور الكرام، وبالأحرى قد سمعت عن الاتحاد السوفيتي.
ولد كارل ماركس في مايو من عام 1818م، في مدينة ترير بألمانيا، كان والده هرشيل ماركس يهوديًا أول الأمر، ولكن مع القوانين البروسية (نسبة لمملكة بروسيا)، غيّر والده دينه ودين العائلة كلِها من اليهودية إلى المسيحية البروتستانتية، وصار بالتالي اسمه هنريش بدلًا من هرشيل.
وتم تعميد ماركس بعد ميلاده بستة أيام فقط؛ وذلك لأن تلك القوانين حرّمت على اليهود الالتحاق بالوظائف الخاصة بالطبقة البورجوازية.
ورغم أن ماركس ينحدر من عائلة أغلبها حاخامات يهود، إلا أنه لم يشعر أبدًا في يوم من الأيام بالحنين أو الانتماء لذلك الدم اليهودي.
نشأ ماركس في كنف عائلة مُثقفة، فقد كان أبوه مُحاميًا ضليعًا، وكانت أمه ربةَ منزل، ورغم قربه من والده، إلا أن أباه – كما تذكر بعض المصادر – كان قاسيًا بشدة، وقد تسبب في غرس ثمار الأنانية والغضب وتأنيب الذات في نفس ماركس الطفل، والتي ستظل تنمو فيه طوال حياته.
أراد ماركس أول حياته أن يلتحق بدراسة الفنون المسرحية لدراسة الأدب والدراما، لكن والده عدله عن تلك الفكرة وأجبره على الالتحاق بكلية الحقوق. وأثناء ذلك كان ماركس شابًا متهورًا قليلًا، ففي عام 1830م انضم لمجموعة من الشباب المتهورين، فانغمس في السُكر والتخريب والمشاجرات، حتى قُبض عليه مرة.
في ذلك الوقت كانت علاقته بوالده متوترة، لأن والده – كما ذكرنا – كان رجلًا قاسيًا، ولا نعلم هل كان ماركس يُحب مُعاندته واستفزازه أم لا، ولكن من المعروف أن والده في لحظة صفاء كتب له اقتباسات ملهمة يقول:
“إذا شاءت إرادة الله، فلا زال أمامك حياة طويلة لتعيشها لخيرك ولخير عائلتك – وإذا كان حدسي صحيحاً – لخير البشرية”.
بدأ ماركس يشعر بأن عليه الاهتمام بدراسته كما ينبغي، وفي عام 1836م تعرف على جيني فون ويستفالين، والتي ستصبح زوجته فيما بعد، وكان لقاؤهما الأول كما يقول البعض: حُب من أول نظرة. فبرغم فارق السن بينهما فقد كانت تكبره بخمسة أعوام.
إلا أنهما انجذبا لبعضهما البعض بشدة، وبرغم أن والدها يُعد من الطبقة الأرستقراطية، وذلك أمر كفيل بأن يُعرّض علاقتهما للخطر، إلا أن والدها كان رجلًا يساريًا مُنفتحًا لا يُلقي لمثل تلك الترهات بالًا.
أثناء علاقته بجين، كان يكتب لها العديد من الرسائل والأشعار، فبجانب أنه يُعد مُفكرًا وفيلسوفًا، إلا أن ماركس له العديد من النظريات في الفن والمسرح، وأول أعماله كانت مسرحية، كما كتب بعض الروايات والأشعار – كان أغلبها في زوجته جين، لكنها لم تلقَ رواجًا ككتبه الفكرية والفلسفية. وقال في إحدى رسائله لجين بعد زواجهما:
“لكنَّ هوَ الحُب، ليس ذاك الحب على أسلوب فيورباخ، وليس من أجل الاستمرار في هذه الحياة عن طريق تلك التغيرات الحيوية. وليس من أجل نساء هذا العالم، واللائي بعضهم – نعم – يتحلين بالكثير من الجمال.
لكن أنّى لي أن أجد وجهًا كل خواصه، كل تجاعيده، هو عبارة عن تذكار لأجمل وأعظم لحظات حياتي، حتى آلامي المُبرحة اللا مُنتهية، وخسائر حياتي الفادحة التي لا تُعوض؛ أراها في مُحيّاكِ الجميل، إني أُقبل الألمَ قُبلةَ الوداع إذا قبلتُكِ. إلى اللقاء عزيزتي، كارل الذي تملكين”.
(ماركس وزوجته)
في تلك الرسالة ترى كارل ماركس آخر غير الفيلسوف وعالم الاجتماع والمُنظر السياسي ونبي الشيوعية الأول، تجد كارل الرومانسي الشاعر. وأما عن آلامه المُبرحة، فقد وُلد ماركس وهو يُعاني بضيق حاد في التنفس.
وهذا ما أعفاه من الخدمة العسكرية، كما أن مواظبته على السكر تُعد سببًا رئيسًا في عاداته السيئة التي أمرضته وجعلته يُعاني من آلام وأمراض عديدة، كذلك جعلته رجلًا سريع التقلب المزاجي، يغضب تارة إلى أقصى حد، ويهدأ تارة أُخرى.
عكف ماركس على دراسة أفكار وكتابات الفيلسوف الألماني هيغل، خاصة الجدلية الهيغلية، وأثناء نيله للدكتوراه تحت عنوان الفرق بين الفلسفتين الديموقراطية والأبيقورية عن الطبيعة، كان قد بدأ في نقد أفكار هيغل للاستفادة منها.
وهنا كان النقد الخاص بماركس نقدًا إيجابيًا، فقد قلب فلسفة هيغل رأسًا على عقب – على حد وصفه – ليُفرغ منها المحتوى الروحي الميتافيزيقي – الماورائي، لتستقر على المادية فحسب.
(هيغل)
فجدلية هيغل كانت ترى أن العالم يُحكم في تغيراته وتطوره وفقًا للتناقضات والتلاحم والتصارع بين جزئياته؛ أي أن لكل أطروحة نقدٌ موجه لها، وذلك التلاحم بينهما سيودي بنا إلى نتيجة جيدة تتحول لأطروحة جديدة، فيصير لها نقد كذلك.
“أطروحة + نقد الأطروحة = نتيجة (توليفة بين الأطروحة والنقد)”
وذلك التلاحم والتغير والصراع حسب هيغل يصير وفقًا لمنظور مثالي تحت تأثير روح تجوب ذلك العالم، روح ماورائية، وتلك اللمحة الصوفية الدينية عند هيغل سُميت في الألمانية بـ “giest”، أي الروح.
نزع ماركس تلك الروح من دراسته، نظرًا لماديته الصرفة، وقدّم بدلًا منها تحليلًا ماديًا، صار يُعرف بالجدلية المادية الماركسية، أو الجدلية التاريخية، والذي شرحه في مجلده الأول “رأس المال” حين انتقد مثالية هيغل، وقال إن السبب الرئيس في حركة وتغير العالم هو الصراع الطبقي بين طبقات المُجتمع.
فرأى – أعني ماركس – أن وسائل الإنتاج في المُجتمعات الرأسمالية محصورة في يد واحدة، وهي الطبقة البورجوازية، أو بتعبير آخر رب القصر – صاحب العمل، وبالتالي، يزداد الفقير فقرًا والغني غِنى. لذا، فعلى طبقة البرولتاريا طبقة العُمال أن تأخذ حقها عنوة من تلك الطبقة البورجوازية التي تكتنز الثروة في بطونها.
وتسترد وسائل الإنتاج منها، كي لا يموت أحدٌ جوعًا، ويموت آخر من التخمة، تلك الأفكار التي صاغها كارل ماركس ساعده فيها صديقه فريدريك إنجلز والذي تعرف عليه في باريس (بعدما نُفي ماركس وزوجته من ألمانيا)؛ فقدّما – ماركس وإنجلز – رؤيتهما في عدة كتب منها البيان الشيوعي والإيديولوجية الألمانية ورأس المال.
(كارل ماركس وفريدريك إنجلز)
في عام 1848م، وبفضل تلك الأفكار، بدأ يظهر ما سُمي حينها بالربيع الأوروبي.
هو ثورات اشتراكية تُنادي بالشيوعية، خاصة بعد أن أنهى كارل ماركس كتيبه البيان الشيوعي في سبعة أسابيع؛ يشرح فيه الفكر الشيوعي، وكيف تُفكر رابطة الشيوعيين في تحويل وسائل الإنتاج من الخاص إلى العام، لكل أفراد المُجتمع حق فيها، حتى لا يُسرق حق الفقير بعد ذلك.
ولكن، سَرعان ما وئدت تلك الثورات في أوروبا (والتي انطلقت من باريس التي تنبأ ماركس بأنها ستكون أول دولة شيوعية تُزين الأعلام الحمراء سماءها!.
إلا أن كارل ماركس لم يفقد أمله في استرداد حقوق الفقراء، فاستمر مع إنجلز في الكتابة والنشر والتبشير بأفكارهما حتى وافته المنية في بريطانيا عام 1883م عن عمر ناهز 64 عامًا، بعدما تمكنت منه الأمراض العديدة التي اكتسحت جسده، وُدفن في مقبرة هايغيت في خانة المُلحدين.
وسار في جنازته نحو 13 فردًا منهم زوجته جين وصديقه المُقرب فريدريك إنجلز، وقيل 25 شخصًا، والغريب في القصة أن خبر موت ماركس ظل لثلاثة أيام طيّ الكتمان، ولمّا عُرف في الصحف، كاد الناس يثورون غضبًا على كتمان خبر وفاة ذلك المُفكر العظيم، والذي قال عنه فريدريك إنجلز على قبره:
في 14 أذار/مارس الساعة الثالثة إلّا ربع بعد الظهر، توقف أعظم المفكرين الأحياء عن التفكير. لم يكن وحيدًا إلّا دقيقتين، وعندما عُدنا وجدناه نائماً نومه الأخير، في مقعده. وهي خسارة فادحة للبروليتاريا المُناضلة في أوروبا وأمريكا، وللعلم التاريخي، موت هذا الرجل.
وفي 1956م نُقلت رفاة كارل ماركس وعائلته لمقبرةٍ جديدة كُشف النقابُ عنها، ونُحت عليها عبارةُ السطرِ الأخير من البيان الشيوعي:
“يا عُمال العالم؛ اتحدوا”
(ماركس وإنجلز)
كارل ماركس له العديد من الاقتباسات في الفلسفة والتي تعصف بذهن القارئ وتجعله أسير أفكاره كما هو حال العديد من المُفكرين والكُتاب الذين تأثروا بذلك العظيم:
فقد انتقد كارل ماركس الفلسفة القديمة والفلاسفة، داعيًا إلى تغيير الواقع:
“الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة ولكن المهم هو تغييره”
“الحِنكة تشير إلى أن غاية السعادة للمرء أن يجعل معظم الناس سعداء”
وقال أشهر مقولاته، والتي لم يفهمها البعض إلا تهجمًا على الدين:
“إن التعاسة الدینیة هي، في شطر منها، تعبیر عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طُرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب”.
فـ كارل ماركس كان مُلحدًا، ولم يكن ساخرًا من الدين، لكنه كفيلسوف رأى – حسب ما ذكره في كتابه: البيان الشيوعي – أن المجتمع يُبنى على طبقتين؛ الطبقة الرئيسة هي وسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية التي تجمع بين العامل ورب العمل، والطبقة الثانوية هي في الأساس تتركز على الطبقة السابقة.
وهي طبقة تجمع القضاء والفنون والدين، فإذا كانت الطبقة الرئيسة (طبقة الاقتصاد) تقوم على الرأسمالية، حيث الظلم واستعباد العامل الفقير، إذًا وبلا شك ستكون الطبقة الأخرى تابعة لها، فيُستخدم الدين كوسيلة لتبرير ذلك الظلم وتمريره في المُجتمع.
ولذا، رأى ماركس أن الدين أفيون للشعوب يجعلهم يتحملون قسوة الحياة على أمل أن يلقوا نعيم الآخرة، ومن أقواله:
“الديمقراطية هي الطريق إلى الاشتراكية”.
“النظرية الشيوعية يمكن تلخيصها في جملة واحدة: إلغاء جميع الممتلكات الخاصة”.
“الثورات هي قاطرات التاريخ”.
لقد تنوعت أعمال كارل ماركس بين علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد، فيُعد كارل ماركس أحد أهم رواد علم الاجتماع الحديث، بجانب الألماني ماكس فيبر والفرنسي إميل دوركهايم، وواحد من أشهر – إن لم يكن أعظم – فلاسفة القرن التاسع عشر.
وقد صُنف ضمن أكثر 100 شخصية تأثيرًا في العالم حتى يومنا هذا، فبفضل أفكاره نشأ الاتحاد السوفيتي عام 1917م على يد لينين الذي تبنى الأفكار الشيوعية.
ونستطيع أن نُلخص الشيوعية والماركسية (أفكار ماركس) في قول: إنها تسعى لمحاربة وسحق الرأسمالية والليبرالية الظالمة للعامل الفقير المسكين، ورد حقه، وجعله يملك وسائل الإنتاج ويتشاركها مع رب العمل، وإنها تُحارب الامبريالية – أي التوسع الحدودي والاقتصادي على حساب الأمم الضعيفة والفقيرة.
لذا كان كارل ماركس أشد المُعادين للاستخراب الفرنسي للجزائر والاحتلال البريطاني للهند. ومن أشهر كُتبه:
حسب رأيي الشخصي؛ إن كان لي حق التعليق على أي شخص والحُكم عليه، فأنا لست بمنزلة الحكم على كارل ماركس، فهو عندي فوق الشبهات، فأنا يساري التيار اشتراكي التوجه، وأتشرف بقراءاتي المُكثفة لكتب ماركس وكل ما كُتب عنه.
فلو كان لي أن أُصنفه ضمن عظماء تركوا بصمة في التاريخ، لوضعته على رأس القائمة ضمن الأكثر تأثيرًا. وليس لي في مدحه سوى قول حافظ إبراهيم في نعي تولستوي:
“فَقَد كُنتَ عَوناً لِلضَعيفِ وَإِنَّني ضَعيفٌ وَما لي في الحَياةِ نَصيرُ
وَلَستُ أُبالي حينَ أَبكيكَ لِلوَرى حَوَتكَ جِنانٌ أَم حَواكَ سَعيرُ
فَإِنّي أُحِبُّ النابِغينَ لِعِلمِهِم وَأَعشَقُ رَوضَ الفِكرِ وَهوَ نَضيرُ
وَقالَ أُناسٌ إِنَّهُ قَولُ مُلحِدٍ وَقالَ أُناسٌ إِنَّهُ لَبَشيرُ”