تروي تلك الرواية بشكل واقعي- تاريخي مُطعم بالرمزية الخيالية قصة فتاة اسمها "عائشة"، التي ينقطع طريقها مع شخصيات تاريخية هامة أثرت في تاريخ مصر.
احصل علي نسخةتروي رواية يوم غائم في البر الغربي بشكل واقعي تاريخي مُطعم بالرمزية الخيالية قصة فتاة اسمها “عائشة”، من صعيد مصر، تهرب بها أمها من بطش عمها، وتودعها في أحد الأديرة المصرية القديمة بعد أن دقت صليبًا على يدها الصغيرة، لتنشأ الطفلة داخل حياة غير حياتها الأصلية.
وتكبر الفتاة لتعمل مُترجمة عند المندوب السامي البريطاني وقتذاك وهو اللورد كرومر، وهنا نبدأ في التعرف على شخصية تاريخية هامة أثرت في تاريخ مصر، فنراه ونسمعه عن كثب، وكذلك كانت تكتب المقالات في جريدة المؤيد عند الزعيم مصطفى كامل، فنتعرف على مصطفى كامل الإنسان المُناضل عن كثب هو الآخر،
ولا يكتفي الكاتب بذلك بل مع سرد الأحداث يقفز إلى ثورة الـ ١٩١٩ ونتعرف فيها على قصة بناء تمثال النهضة، والتي يرويها لنا بنفسه محمود مختار. ونرى رحلة بطلتنا إلى طيبة مع هوارد كارتر قبيل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.
رأى البعض أن رواية يوم غائم في البر الغربي تحمل بين دفتيها رمزية واضحة لإعادة كتابة التاريخ المصري، فشخصية “عائشة” بمعاصرتها لجميع الشخصيات والأحداث طوال فترة الرواية، كأنها كانت بمثابة مصر، والتي ظلت تحت وطأة الاحتلال المُتمثل في شخصية اللورد كرومر الانتهازي،
وشخصية كارتر الذي لا يفكر سوى في المال والنفوذ والشهرة، ولو على حساب الآخرين، بينما الشخصيات الوطنية كانت قصيرة الأمد، وقوبلت إما بالتعذيب أو التنكيل كـ محمود مختار، أو بالاستنكار كالذي تعرض له مصطفى كامل.
ركز كذلك الراوي على شخصية “إخناتون” من الأسرة الثامنة عشر، مُشيرًا إلى ذلك الحاكم المارق –كما وصفة عبدة آمون وقتذاك الذي دعا لتوحيد إله واحد وهو آتون، وأنشأ له عاصمة أخيتاتون بطيبة، وما السبب وراء تلك الدعوة، فقد أظهره قنديل بشكل الحاكم الحكيم الإنساني الطيب الذي يبحث عن المعنى والحكمة في سيرورة الحياة، كأن محمد منسي قنديل يُعيد سبر أغوار التاريخ بشكل مختلف عما عهدناه في كتبنا المدرسية والسلطوية.
يُعد الكاتب محمد المنسي قنديل من الكُتاب الذين أعادوا كتابة التراث العربي والمصري بشكل جديد، فجعل رواية يوم غائم في البر الغربي هي المنظار الذي يُطالع من خلاله القارئ أحداثًا تاريخية جلية، وجعل من الشخصيات التاريخية أكثر أُلفة وقُربًا للقارئ عن الكتب التاريخية،
فقد نزل بتلك الشخصيات أرض التاريخ والواقع، وحطم بقلمه أبراجها العاجية التي أنشأتها كتب التراث، فجعل شخصية مثل أخناتون أو مصطفى كامل أو للورد كرومر كأنهم بجوار القارئ، شخصيات محسوسة وليست معروضة في المزارات التاريخية.
محمد المنسي قنديل، مرة أخرى، يصنع خلطته الروائية الساحرة على طريقته الخاصة، ينهل من نبع التاريخ الذي لا ينضب قصصُا يصنع منها أساسات راسخة، فيبني عليها من خياله عالمًا جديدًا، عالمًا تتشكل أبعاده وفق خياله الفذّ، وتتجسد شخصياته كما يريد لها أن تكون، وتتشابك خطوط حكاياتهم في تناسق بديع، مبهر، وليس له مثيل؛ خليط ما أن تتذوقه مرة لن تنساه أبدًا.
يبدأ المنسي قنديل روايته من العنوان نفسه، يوم مجهول وغامض في البر الغربي لنهر النيل الخالد، يبدأ من نقطة معلومة في حياة عائشة ليأخذنا معها في رحلة نحو المجهول، رحلة ما أن تنتهي منها حتى تستعيد تفاصيلها من البداية، منبهرًا من كم الحيوات التي عشتها، كم البشر الذين تفاعلت معهم وتشربت حكاياتهم بين ضفتي الرواية، وكم المشاعر التي عشتها بين صفحتي البداية والنهاية.
قصة عائشة وحدها بها من زخم التفاصيل والأحداث ما يصنع رواية منفصلة، والتي بدأت بالهروب من عمها الطامع في جسدها بعد أن تركها والدها الراحل بلا سند، وظلت تهرب وتهرب وتهرب، لتفاجأ في النهاية وقد هربت روحها منها وذبلت شعلة الحياة داخلها بعد أن أنهكها الركض. أستعيد الآن رحلتها الطويلة من البداية للنهاية مرات ومرات، في كل مرة أتذكر تفصيلة جديدة، أو شخصية عابرة وسط الأحداث، أدرك الآن مدى عظمة حكاية عائشة منفردة، ومدى براعة المنسي قنديل في رسم الشخصيات الثانوية قبل الأساسية في كل مكان ذهبت إليه عائشة، أتذكر مارجريت الراهبة، وأم عباس صاحبة البيت الحانية، أتذكر نبوية المستحية وبيت وش البركة للدعارة مقر عملها، وأتذكر مختار الذي جسدت حكايته موجز مأساة الصراع الوطني مع الإنجليز في عهد الزعيمان مصطفى كامل ومحمد فريد؛ ما هذا بحق الله الذي يفعله المنسي قنديل في رواياته؟، كيف يمتلك هذه القدرة الساحرة على ضخ الحياة في عشرات الشخصيات داخل الرواية دون أن يدعك تتوه أو تمل او حتى تشعر بعدم أهمية إحداها؟.
لكم أن تتخيلوا أن المنسي قنديل وصل بنا إلى طيبة برفقة كارتر وصنع عالم آخر موازي لعالم عائشة في جنوب مصر حيث التنقيب عن الآثار وتهريبها أو بيعها، عالمان متكاملان مرسومان بدقة ويمشيان بالتوازي من البداية وصولًا لنقطة التقاء في الثلث الأخير، ثم يحدث ماذا؟، يظهر عالم ثالثّ!، أي والله عالم ثالث، تدخل قصة أخناتون في الاحداث، فصل كامل يقارب السبعين صفحة يحكي حكاية ملك الفراعنة العظيم موحد الآلهة الأول، ثم فصل آخر يحكي قصة ولي عهده توت عنخ آمون، كل هذا على خلفية تنقيب الآثار تحت قيادة العديد من الاجانب منهم كارتر. الأمر يصعب يتخيله، ويصعب وصفه، لا أملك إلى الذهول والصمت الآن.
ماذا تبقى لنثرثر عنه؟، أسلوب المنسي قنديل؟، بالطبع عظيم، سلاسة في السرد وانتقال بين الأزمنة المختلفة والأماكن العديدة، من بريطانيا وطبقيتها وقادتها العتاة، إلى مصر وتخلفها وصراعاتها في عهد الإنجليز، إلى الفراعنة وأعاجيبهم وآلهتهم وحروبهم،من هنا إلى هناك يغزل نسيجه بمعلمة، ويتبادل السرد بينه وبين شخصيات الرواية وبالتحديد كارتر، بديع.
طبعًا، وكالعادة، ثرثرة لا نهاية لها رغمًا عني، قليل الحيلة وعاجز عن التعبير أمام عمل ألجمتني روعته إلى هذا الحد. يبقى سؤال واحد أجيبه لأنهي هذه الثرثرة، لماذا انتقصت نجمة؟. قد يبدو من كلامي انبهارًا كبيرًا بالمنسي قنديل، ولكنه الطبيعي، نعم معظم ما قرأته للمنسي قنديل كتبت عنه على درجة مماثلة من الإنبهار، أنا عاشق لقلم هذا الرجل. ولكن هنا عنصر ناقص، حلقة واحدة مفقودة من سلسلة تفاصيل الرواية لا يجب أن أغفلها، وهي منطقية دوافع عائشة، هناك خلل ما في تفكيرها، وسذاجة تخطت حدود المنطق في بعض التصرفات، خصوصًا فيما يتعلق بالحدث المأساوي الذي حدث لها في منتصف الحكاية، وتكرر هذه المشكلة مع شخصيات أخرى ولكن بشكل أخفّ، هناك أيضًا بعض الخطوط الموازية التي فتحها المنسي قنديل في الأحداث وشعرت أنه أنهاها باضطراب واستعجال، ولكن رغم كل ذلك ألتمس العذر له للأمانة، وسط كل هذا الزخم من التفاصيل وكل هذه الخيوط المتشابكة أرفع له القبعة على أن خرجت الرواية بهذا الإتقان في النهاية.