الأدب العربي أو العالمي، أو الفن في مجمله وبشكلٍ عام يرتبط بالحياة السياسية بخيط خفيٍ أحيانًا، وأحياناً أخرى بعروة وثقى يمكن للجميع رؤيتها ولمسها والتمسك بها.
فكما يُقال، الأدب العربي والفن هما مرآة المُجتمعات، لذلك يمكنك وبكل سهولة التقاط كتاب ما من حقبة زمنية معينة وتكتشف، إما بشكل جَليّ أو بشكلٍ رمزي وخفي، الحالة السياسية والإجتماعية للفئة التي يُمثلها ذلك العمل.
ولكن دعونا نُضيق العدسة والحقبة الزمنية لنصل إلى إحدى أهم الفترات السياسية في حياة الوطن العربي والأدب العربي – تحديدًا الأدب المِصري – وهي الفترة ما قبل وبعد ثورة ١٩٥٢.
الأدب العربي بشكلٍ عام هو عالم مُصغر للعالم الكبير الذي ننتمي إليه وأحيانًا يكون نسخة مطابقة في أصالتها لواقعنا، أينما كُنا وكيفما كان هذا الواقع، خاصةً عندما تغرق المجتمعات في موجات الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وهو ما كان يحدث تمامًا في مصر على مدار أكثر من ٧٤ عامًا.
ولكن إذا بدأنا البحث، سنجد الكثير من النسخ المطابقة والغير مطابقة لما فسرناه قبلًا. هل نقل الأدب العربي والمصري في تلك الفترة النسخة المطابقة للمعايير السياسية والاجتماعية السائدة في مصر؟ وهل كان هنالك مُناخ مُسيطر على نوع الأدب السياسي والاجتماعي المصري في تلك الفترة أم لا؟
يُسيطر على أعمال الأدب العربي المصري، قبل بداية الخمسينيات، حِس تراجيدي وسوداوي بدرجة كبيرة، سواءًا كانت الأعمال اجتماعية أم سياسية. وبالطبع يَطبع هذا الجو في عقل القاريء صورة أو رسالة معينة غالبًا ما تكون مقصودة من الكاتب، وربما هي فقط نقلًا للواقع بدون تجميل أو تزييف.
فنجد في الأدب العربي مثلًا في أعمال العالمي نجيب محفوظ ظل سوداوي يتمثل في عرضه لصورة الأسرة المفككة من بُسطاء المجتمع المصري، كما في رواية بداية ونهاية (١٩٤٩) وخان الخليلي (١٩٤٦).
حيث تناقش الروايتان الضغوطات الاجتماعية والمُجتمعية وتأثيرها على الأجيال المختلفة، سواءً الأجيال السابقة أو اليافعة في ذلك الوقت، ويُمكن اعتبار هذه الأعمال سياسية في باطنها ولكن بشكلٍ خفي، لأن مُعضلتها التي تبدو اجتماعية هي في أساسها تعكس المُناخ الاقتصادي للمُجتمع وهو مرتبط بشكلٍ أبدي بالحالة السياسية.
ولكن لم تقف أعمال محفوظ في الأدب العربي خلف الستار عندما يتعلق الأمر بالسياسة، فإذا أردنا عرض البعض عن حياة نجيب محفوظ و أعماله السياسية بشكلٍ جليّ سنجد رواية القاهرة الجديدة (١٩٤٥)، وهي أحد أهم أعماله وفيها نجد مناقشة مباشرة للحال السياسي في مصر من خلال رموز من مختلف طبقات المُجتمع المصري.
وعلى الرغم من أعماله القليلة قبل حلول العقد الخامس من القرن العشرين -مقارنةً بإنتاجه الأدبي فيما بعد- ألا أنه يمكن ملاحظة أن مُعظم إنتاجه وانتاج معاصريه من الكُتاب.
كان يميل إلى المبالغة في تشويه الفترة ما قبل ثورة ٥٢ – اذا قارناه بالمًحتوى الأدبي بعد حلول الثورة- وذلك بالطبع لأسباب عدة، أبسطها هي التنديد بوجود الاحتلال الإنجليزي وزرع صورة معينة للواقع المِصري، أثناء تلك في الفترة، في أذهان الأجيال القادمة.
فنجد مثلًا العرض المًبالغ فيه لفساد الطبقات الأرستقراطية سياسيًا واجتماعيًا، حتى الطبقات التي لم ترتبط بشكل صريح بالحياة السياسية. ولكن ما مدى صحة هذه الصورة؟ هل حقًا وُجد الاختلاف في الواقع المجتمعي كما عرضه الأدب العربي والمصري ما قبل وبعد الخمسينيات؟
سيجيب البعض بنعم والبعض الآخر بلا. ويمكن اعتبار الإجاباتين على قدر من الصحة. فالاختلاف قد حدث، ليست هذه المُعضلة. المُعضلة في كشف الوجه الحقيقي لذلك الاختلاف.
قد أثر الحماس بلا شك على محتوى الأدب العربي والمصري بعد صرخة ٥٢، بل أنه قد أعمى البعض لفترة طويلة عن رؤية حقيقة الواقع السياسي والاجتماعي في مِصر. ولا يمكننا تمامًا إلقاء اللوم على أحد، فقد كان رد الفعل مناسبًا للفعل الأساسي نفسه.
فقد استمرت المبالغة ولكن بشكلٍ بدا تحفيزيًا للشعلة التي بدأتها الثورة، فقد كان الأمل أن تُحافظ على ضوئها وحرارتها لأطول وقتٍ مُمكن.
وُهنا يمكننا ذِكر الكثير والكثير من الأعمال التي يمكنك وحتى بدون التحري عن تاريخ نشرها أن تستنتج على الفور أنها من إصدارات ما بعد ثورة ١٩٥٢. من أشهرها، على سبيل المثال، مسرحية “الأيدي الناعمة” للكاتب توفيق الحكيم والتي تحولت إلى فيلم مشهور عام ١٩٦٣.
كتبها الحكيم مباشرةً بعد قيام الثورة والتي صور فيها الطبقة الأرستقراطية بالعاطلين والمتكبرين والمُغيبين عن الواقع من خلال شخصية “البرنس” وهي الشخصية الأساسية للعمل.
أيضًا لا يمكننا تجاهل أعمال الكاتب إحسان عبد القدوس والتي يُمكن أن يعتبرها البعض من أكثر الأعمال دعمًا للثورة، ولكن يمُكن للبعض الآخر أن يراها انحيازًا ربما يصل إلى حد المبالغة الغير واقعية.
ومثالًا على ذلك رواية “شيء في صدري” والتي صدرت بعد اندلاع الثورة بحوالي ٦ سنوات. تتمحور تلك الرواية حول رسم صورة للفساد بكل أشكاله في عهد الملك فاروق، حيث تبدأ أحداثها في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى عام ١٩٥٢.
ومن الروايات التي تتبع ذات النهج هي رواية رد قلبي (١٩٥٥) للكاتب يوسف السباعي والتي لا تخلو بالطبع مما عرضناه عن محتوى الروايات السابقة من تشويه وتنديد بكل الطبقات الأرستقراطية بكل أشكالها ومحاولة إظهارها في قالب قد يبدو غير آدمي أحيانًا.
ففي هذه الرواية نجد ال “cliché” الذي اعتدنا وجوده في معظم أعمال ذلك الوقت والمستمر إلى الآن ولكن بصوره المختلفة، وهو قصة الحب المستحيلة ما بين “بنت الباشا” “وابن الجنايني”.
ومن خلال تلك الحبكة استطاع السباعي رسم صورة كانت مسيطرة على أذهان الجميع في تلك الأثناء بالفعل وهي قمع وإذلال الطبقات العُليا للطبقات المطحونة والمتوسطة.
وأخيرًا من روايات الأقلام النسائية رواية “الباب المفتوح” (١٩٦٠) للكاتبة لطيفة الزيات، وإن كانت ذات طابعٍ مُختلفٍ ومذاق مُحير يجعلك، حتى وإن كنت من صفوف المعارضين، تخوض التجربة بنفسٍ راضية ومُحبة لكيفية تقديم لطيفة الزيات لوجهة نظرها ورؤيتها، وربما هذا ما يُفرق روايتها عن معظم الروايات المذكورة.
في هذه الرواية بالتحديد يوجد مزج ما بين العديد من القضايا، ما بين قضية المرأة ودورها في المجتمع إلى فكرة الانتماء العاطفي للوطن والحبيب وربط تلك العوامل بالحالة الاجتماعية والسياسية لمِصر ما قبل انطلاق الشرارة بفترة قصيرة.
ولكن يوجد بعض المآخذ التي تجعل تلك الرواية كغيرها من روايات العصر فيما يتعلق بضمها لأحداث الثروة كجزء محوري من الرواية، وإن كانت الطريقة التي تناولتها به تختلف اختلافًا تامًا عن ما سبقها وتلاها من روايات.
تعدُد القضايا المُتناولة في الرواية، حتى وإن كان تناوله قد تم ببراعة، أضعف بشكلٍ أو بآخر الجزء الخاص بالثورة، فقد تجد الأحداث كلها منسجمة انسجامًا تامًا إلا عندما تحاول لطيفة الزيات مزج الأحداث السياسية بحياة الأبطال في بعض المواقف والمناطق.
فقد بدا البعض منها دخيلًا على الأحداث، بل وزاد من حجم وطول الرواية مما أضاف طابعًا مُملًا عليها بالنسبة للبعض، وهنا تأتي النقطة الرئيسية وهي، هل كان من الضروري بالنسبة لجميع الكتاب أن يتركوا أنفسهم لتيار الرواية السياسية؟ أم أن كل ذلك كان نابع من حماس وطني بحت؟
يمكن الإجابة بنعم على السؤالين. ولكن إذا كان هذا التيار قد حصد جمهورًا واسعًا ورسخ أسماء هؤلاء الكتاب في أذهاننا إلى الأبد.
إلا أنه في كتب التاريخ المصري نجده قد حصد نتيجة عكسية بالنسبة للأجيال اللاحقة مما حمله من مبالغة ودعم أعمى وإقحام غير ضروري لكل ما هو متعلق بالثورة في الأعمال الأدبية والفنية بكل أشكالها وأنواعها، ويعود كل ذلك بالطبع لتأثير حُلم الاستقلالية والحرية على نفوس الجميع.