الحاكم بأمر الله كثيراً منا قد سمع عنه في كتب التاريخ المصري، فهل كنت تعلم أن أكل الملوخية قد منع في مصر في عصر أحد الحكام من قبل؟ ليست الملوخية فحسب، بل تميزت فترة حكم هذا الرجل بعجائب وغرائب كثيرة، حيث منع الناس من العمل في النهار وأمرهم بالعمل في الليل.
منع خروج النساء من البيوت، حتى أنه ادعى الألوهية إنه أحد أعجب الحكام في التاريخ الإسلامي الذي صار يضرب في المثل في الخرف واللامعقول؛ الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي ذكر كثيراً في كتب عن التاريخ، فما هي حكاية الحاكم بأمر الله الفاطمي، ولم وصف بكونه غريب الأطوار، وما العجيب في سيرة هذا الرجل؟ دعونا نرى.
الحاكم بأمر الله هو المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله سادس خلفاء الدولة الفاطمية في مصر، وكانت كنيته أبو علي.
ولد الحاكم بالله عام 375 ه، وتولى الحكم خلفاً لأبيه العزيز بالله عام 386 ه، وكان في عمر الحادية عشرة فقط آنذاك. لذلك، تولى أمور الدولة رجال أبيه أمثال براجون والحسن بن عمارة. ولكن، ما إن اشتد ساعد الحاكم بأمر الله حتى قتلهما لكي لا يشاركه أحد في الحكم.
اتسمت شخصية الحاكم بأمر الله بالغرابة، وكان كثير التناقض بين أقواله وأفعاله، واختلفت الأقاويل حول فترة حكمه، واتهمه البعض بالجنون.
بعد أن تخلص الحاكم من منافسيه وتمكن من السيطرة على مقاليد الحكم بشكل كامل، كان قد تجاوز الخمسة عشر من عمره آنذاك، وعلى عكس آبائه وأجداده بدأ الحاكم بالله فترة حكمه بمظاهر الزهد والتقشف. فيقال أنه أعتق جميع مماليكه سواء كانوا ذكورا أو إناث وأمنهم أنفسهم وسمح لهم بالتصرف فيما يملكونه وما اقتنوه من أبيه.
بدأ كذلك في ارتداء الملابس الخشنة المصنوعة من الصوف بدلاً من الملابس المذهبة وذلك خلافاً لعادة آبائه الذين كانوا يسرفون في الزينة والاحتفالات.
روي عن الحاكم كذلك أنه كان سخياً معطاءًا في بداية حكمه، كما حرص على تلقي المظالم لتطهير دولته من الفساد، حتى أنه كان يجوب الأسواق ليلاً نهاراً لسماع مظالم الناس وشكاويهم.
كان الحاكم بأمر الله شخصية عنيدة واشتهر بسهولة سفكه للدماء حتى دماء وزرائه ورجال دولته، فكان يعين أحدهم في منصب ثم ما يلبث أن يقتله، ويعين آخر ثم يلحقه بأخيه وهكذا. ويقدر بعض المؤرخين قتلاه بحوالي ثمانية عشر ألف قتيل، من بينهم علماء وكتاب وكثير من وجهاء الناس ورجال الدولة.
ظهرت من الحاكم بأمر الله تصرفات غريبة ومتناقضة خلال فترة حكمه، فكان أحياناً يأمر بالشيء ثم يعاقب عليه، كأن يعين وزيراً ثم يقتله.
ارتبط اسم الحاكم بأمر الله بالعديد من الحكايات العجيبة التي تشعر بالغرابة، وقد تضحك عند سماعها. فمثلاً، يقال أنه في عام 405 ه أصدر الحاكم بأمر الله مرسوماً بمنع النساء من الخروج من البيوت أو الذهاب إلى الحمامات، وحتى منعهم من الطلوع إلى الأسطحة أو النظر من النوافذ.
توعد بمن يخاف هذا الأمر، حتى أنه قتل العديد من النساء اللواتي خالفن أمره وهدم بعض الحمامات عليهن.
وقد ذكر كذلك أنه أصدر مرسوماً بمنع أكل الملوخية والجرجير بحجة أن معاوية بن أبي سفيان كان يحب أكلهما. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تذكر بعض كتب التاريخ أيضاً أنه منع بيع السمك بدون قشر وحرم زراعة كروم العنب بحجة أنها تدخل في صناعة النبيذ.
يشير بعض المؤرخين إلى أن فترة حكم الحاكم بأمر الله اتسمت باضطهاد أهل الذمة من اليهود والنصارى، ويدعي المؤرخون إلى أنه أمرهم إما بالدخول في الإسلام أو الذهاب إلى بلاد الروم، وأمر بأنه من أراد منهم أن يبقى في مصر فعليه إن كان نصرانياً أن يعلق صليب من الذهب أو الفضة.
إن كان يهودياً فعليه أن يعلق تمثال عجل على صدره. لكنه أمر بعد ذلك بأن تستبدل الصلبان ورؤوس العجل بالخشب بدلاً من الذهب والفضة، ويقال كذلك أنه أصدر مرسوماً بمنع أهل الذمة من ركوب الخيل، ومنعهم كذلك من دخول الحمامات دون تعليق جرساً في أعناقهم لتفريقهم عن المسلمين.
لم تقف الحكايات الغريبة عن الحاكم بأمر الله عند هذا الحد، فقد ذكر البعض أنها وصلت إلى ادعاء الألوهية. وعلى قول بعض المؤرخين أن وفداً من دعاة المذهب الإسماعيلي قد قدم إلى مصر وكان يقودهم محمد بن إسماعيل الدرزي وحمزة بن علي الفارسي ونادوا بألوهية الحاكم.
يقال أن هذه الفكرة قد راقت للحاكم واعتقد في فكرة تجسد الإله في شخصه، وأعلن الدعوة بتأليهه في عام 408 ه، ويقال أنه فتح سجلاً لتسجيل أسماء المؤمنين الجدد به.
كان المصريون من أهل السنة، فلم ترق لهم هذه الدعوة وعارضوها ونقموا على الدعاة الفرس الذين يدعون تجسد الإله في شخص الحاكم بالله، فانقضوا على محمد بن إسماعيل الدرزي وقتلوه. أما بالنسبة لحمزة الفارسي فيقال أنه اختفى ثم ظهر مع أتباعه في بلاد الشام.
على الرغم من الحكايات العجيبة التي ارتبطت بالحاكم بأمر الله، إلا أنه نقل عنه بعض الأمور النافعة أيضاً، فقد ذكر أنه كان مهتماً بالعلم وأولى اهتماماً كبيراً بنشر المعرفة والفنون.
أنشأ الحاكم بالله دار الحكمة في مصر ودعا إليها العديد من العلماء في مختلف الفنون والعلوم وأجزل عليهم العطاء وخصص لهم مرتبات كبيرة، كما هيأ لهم جميع وسائل الراحة ليتفرغوا فقط للبحث والدراسة والتأليف.
قام أيضاً بإنشاء مكتبة كبيرة في دار الحكمة وضم إليها العديد من الكتب العظيمة التي لم تكن في مكتبة أخرى في هذا العهد، وقد قام الحاكم بأمر الله كذلك بإنشاء العديد من المساجد ودار العلم للمتعلمين، وفتحت هذه الدار مع دار الحكمة لعقد جلسات المناظرة، وخصص فيها قسم للرجال وقسم للنساء.
حكم الحاكم بأمر الله مصر في الفترة بين 996 م و 1021 م أي استمر حكمه لمدة 25 عاماً.
ساد الغموض حول موته أو اختفائه كما كان حول فترة حكمه، فالمصادر التي تفصل مقتل الحاكم بأمر الله عديدة ومختلفة، إلا أن هناك الكثير من الروايات التي ترجح أنه قتل نتيجة مؤامرة حيكت ضده من أعدائه. وهناك بعض الروايات الأخرى التي ترجح أنه قتل على يد أخته ست الملك.
أما عن كيفية قتله فإحدى الروايات الشهيرة تقول بأنه خرج كعادته في إحدى الليالي على حماره ليتأمل النجوم على جبل المقطم، ولم يعد بعدها، فأرسل الجنود يقتفون أثره إلا أنهم لم يعثروا عليه وعثروا على عباءته ملطخة بالدماء، وتم إعلان موته بعدها بعدة أيام.
ختاماً، الغموض حول سيرة الحاكم بأمر الله مازال مستمراً إلى الآن، ففيما يتهمه البعض بالجنون والزندقة، يرى آخرون أنه الخليفة المفترى عليه من التاريخ، وأن المؤرخين قد يلجأون لتشويه التاريخ من أجل أغراض سياسية.
هل كان الحاكم بأمر الله مظلوماً حقاً، هل يمكن أن يكون قد تعرض للتشويه؟ أم أنه بالفعل غريب الأطوار اتسمت سلوكياته بالغرابة والتناقض والجنون أحياناً؟ ترى أيهما هي الرواية الصحيحة؟