لو جيت تسأل حد عن ذكرياته الحلوة، وركزت في شكل عينيه، هتلاقي ان بؤبؤ العين بيكبر وعينيه بتلمع وبيبتسم ابتسامة تلقائية وهادية وتحس بالامتنان من مشاعره، انما لو كانت الذكريات مؤلمة هتلاقي عينيه مليانة دموع، وتحس انه اخد غطس جوه بحر ذكرياته، وهتلاحظ ان عنده رغبة في الهروب من الجواب على السؤال ومشاعر الفقد مسيطرة على تفكيره، في مقالة النهاردة هنتكلم بشكل أعمق عن الذكريات، من حيث المعنى الفلسفي للذكرى، وازاي بتتكون في الدماغ، وإيه تأثيرها على الصحة النفسية، ودورها في الإبداع الأدبي.
حضر علبة المناديل وكوباية شاي ويلا نبدأ
الفيلسوف جون لوك ربط بين الذكريات والهوية، وده لأن الهوية الشخصية بتتعرف من خلال الاستمرارية العقلية وقدرة الإنسان على التذكر واسترجاع التجارب، ولكن يا أستاذ لوك هل لو الإنسان فقد ذاكرته هيفضل هو نفس الشخص ولا طبيعة الذات بتتغير مع تغير الذكريات؟!
يجي الفيلسوف هنري برجسون، يلحقنا ويتكلم عن الربط بين الذكريات والذاكرة الزمنية، وبيفرق بين الذاكرة الآلية واللي بتكون مسؤولة عن العادات والسلوك، والذاكرة الخالصة، ودي اللي بتكون مرتبطة بالمشاعر، ومن وجهة نظره أن الذكريات هي البوابة اللي بتدخل فيها من الحاضر للماضي.
ولكن هل للذكريات قيمة؟
مش هنلاقي أفضل من نيتشه يجاوبنا على السؤال ده، بيقول إن الإفراط في التعلق بالماضي بيكون عائق أمام العيش بحرية، واخد بالك انت ياللي لسه بتراقب الإكس شيفاك!، نيتشه أكد واعترف بأن الذكريات أهم جزء في تركيبة الإنسان.. الإنسانية عامةً ولكن بلاش نديها أكبر من حجمها ولا نخليها تسيطر على تفكيرنا في المستقبل.
طب والحل يا فلاسفة هنعمل إيه دلوقتي نفتكر ولا ننسى؟
الفيلسوف بول ريكور اتكلم عن العلاقة الجدلية بين الذكرى والنسيان، وقال انهم بيشتغلوا مع بعض مش ضد بعض، بمعنى ان النسيان مش عدو الذكريات، النسيان ضروري لتخفيف حدة ألم الذكريات، ولكن هل ده معناه ان الذكريات ممكن تتحرف من عقلنا الباطن عشان تخفف الآلم؟! وده اللي أكده الفيلسوف ديفيد هيوم ومجموعة من الفلاسفة المعاصرين قالوا إن الذكريات بتتشكل وفقا لرغبات الإنسان واحتياجاته الحالية.
اخدني التفكير العميق عن ازاي الذكريات بتتكون في الدماغ وبعد بحث طويل، جبتلك الوصفة الأصلية لتكوين الذكريات، ورقة وقلم واكتب ورايا
لما بتبدأ تجربة جديدة أو حتى تعرف معلومة جديدة، بتبدأ حواسك “الرؤية – السمع – الشم” تحلل وتطبخ التجارب دي عشان تحولها لإشارات كهربائية وكيميائية، طب وبعد ما بتحولها بتحطها فين؟
بتنقلها للحُصين وهو المدير المسؤول عن تجميع المعلومات من حواسك كلها وربطها ببعضها عشان تتكون ذكرى متكاملة، وهنا هيجي جزء التخزين.
عايزاك ترجع بالذاكرة كام سنة وتفتكر حصة المنطق في الثانوية العامة، واللي كانت بتتكلم عن أنواع الذكريات، لك أن تتخيل يا عزيزي القارئ أننا كبشر عندنا 4 أنواع من الذاكرة وبردوا بننسى:
بعض الأطباء بينصحوا بالنوم العميق عشان الدماغ يقدر يعيد تنظيم الذكريات ويثبتها، والاهتمام بالرائحة لأنها أسرع حاسة بتوصل للذاكرة
مع بداية أغنية كان يا مكان، للفنانة ميادة الحناوي، وخصوصًا مع كوبلية “حبيبي كان هنا مالي الدنيا عليا” بيبدأ شعور بالنوستالجيا واستعادة الذكريات، فيه منها الحلو اللي بيخليك تبتسم ومنها المؤلم اللي يبكيك، ومن غير ما تحس بيبدأ الشعور ده ينتشر في جسمك ويسطر على حالتك المزاجية، عشان كده خلينا نكتشف أكثر ازاى الشعور ده بيتسرسب جوه حالتنا المزاجية.
الذكريات المؤلمة زى الفقد، الفشل، الحوادث أو الصدمات هى أفيونة الإكتئاب والقلق والحزن الشديد، فلما يحصل موقف أو تشم رائحة حاجة بتفكرك بالصدمة اللي مريت بيها، تلقائي بيحصلك حاجه اسمها “PTSD” , ودي بتسمى بإعادة تجربة الصدمة، وبتسبب إجهاد نفسي كبير، مش بس الصدمات والفقد اللي بيسببوا شعور سلبي، كمان الشعور بالذنب والندم من قرار خاطئ عملته في الماضي بيضعف الحالة النفسية جدًا، والاسترجاع المتكرر للذكريات المؤلمة من غير ما تتصالح معها هيخليك في حالة من “الـ Rumination” وكده أنت بتغذي القلق والاكتئاب أكثر.
عشان تحاول تقلل من خطورة تذكر الذكريات المؤلمة، هتعمل حاجه اسمها إعادة صياغة للذكريات “CBT” وهنا هتقلع النظارة السوداء وتعمل كوباية شاي وياسلام لو فيه نعناع، وتجيب ورقة وقلم وتتقمص روح السيناريست اللي جواك وتعيد النظر في ذكرياتك السلبية وتفكر فيها بموضوعية أكثر، وتعملها إعادة معالجة وتشوفها من زاوية تانية، تخليك تكون واعي بالماضي ولكن متتعلقش بيه، اكتب بنود عقد تصالح مع ذكرياتك المؤلمة عشان تسيب باب مشاعرك مفتوح لذكريات حلوة تهون عليك وخلى النسيان شاهد على العقد ده.
“الذكريات هي الشيء الوحيد الذي لا يستطيع الزمن أن يمحوه، فهي تعيش فينا أكثر مما عشناها في الواقع – إحسان عبد القدوس
الأديب نجيب محفوظ، كان لقبه ” كاتب الحارة المصرية” وده لانه بيستلهم شخصيات وأحداث رواياته من ذكرياته في أحياء القاهرة القديمة وخصوصًا حي الجمالية اللي اتولد فيه، كثير من الكتاب بيستخدمو ذكرياتهم وتجاربهم الشخصية في كتابة قصصهم ورواياتهم وده بيدي طعم تاني للرواية بيكون واقعي أكثر.
ولكن هل الكُتاب بيكتبوا ذكرياتهم حرفيًا؟
أكيد لا، بيتم إعادة تشيكلها عشان تناسب السياق الأدبي للرواية أو القصة اللي بتكلموا عنها، ودي حاجه بتخليهم يفهموا مشاعرهم وينقلوا تجربتهم بطريقة أعمق، زى رواية ” مائة عام من العزلة” اللي الكاتب غابرييل ماركيز، استهلم ذكرياته مع عائلته عشان تزيد من الرواية بُعد أدبي أغنى وأعمق.
الذكريات الثقافية اللي بيتشارك فيها شعب كامل زي الحروب أو عادات وتقاليد، كان ليها دور كبير في نشر ثقافتها وقضيتها بين عدد كبير من الشعوب، زي كتابات غسان كنفاني اللي نقلت كل ذكريات النكبة الفلسطينية والصراعات الاجتماعية والسياسية.
كثير من الكُتاب كانوا بيستخدموا طريقة الفلاش باك كطريقة سردية بتعيد القاري للحظات وأحداث من الماضي، وأسلوب “Stream of Consciousness” اللي بيعكس تداخل الذكريات مع الحاضر، وده اللي اتشهرت بيه روايات جيمس جويس.
بعض الأدباء بيستخدموا الذكريات كوسيلة للشفاء النفسي، من خلال تحويل الألم والتجارب الصعبة اللي مروا بيها لكلمات، بيحرروا بيها الذكريات عشان يقدروا يتصالحوا مع الماضي، زى روايات إليف شافاق، اللي بتستند إلى ذكريات مؤلمة وصعبة جدًا، وللسبب ده كثير من الأطباء النفسيين بينصحوا بالكتابة كأداة للعلاج النفسي من تأثير المشاعر والذكريات السلبية.
بكتب المقالة وأنا بسمع أغنية الست أم كلثوم “فكروني” بالتحديد كوبلية “بعد ما اتعودت بعدك غصب عني .. جم في همسة وغيروني كانو ليه بيفكروني”، اللي كتب الأغنية هو الشاعر عبد الوهاب محمد، وكان بيوصف فيها خناقة الحنين للحب القديم والرغبة في النسيان، وبيختم الكوبلية وبيقول “كلمتين اتقالو شالو الصبر مني، صحوا في عنيا حنينهم للابتسامة، صحوا سمعي يود كلمة من كلامك، صحوا حتى الغيرة”
في النهاية الذكريات عاملة زي الكوبري اللي بين الماضي والحاضر، متجيش في نص الطريق تشد فرامل اليد، وتسيب الذكريات توقفك مكانك.
مصادر طبية موثوقة:
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
استمتعت ❤️
❤️ ❤️