حياة نجيب محفوظ تستعرض من خلال الفيلم، حيث يوثق تجوال الأديب الراحل نجيب محفوظ برفقة الأديب الراحل جمال الغيطاني في حارات الجمالية، ويتطرق من خلاله لحياة نجيب محفوظ في فترة طفولته التي أثرت كثيرا في أدبه، ثم يتحدث عن أبطال رواياته، وكواليس حصوله على جائزة نوبل.
فيلم حياة نجيب محفوظ من إنتاج Bandungs production عام 1989 لصالح القناة الرابعة بالتليفزيون البريطاني، ومن إخراج وتعديل المفكر طارق علي و داركيس هيو.
عرض مؤخرا على قناة DMC المصرية بعد نجاح وحدة الأفلام الوثائقية في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية الحصول على حقوق البث بعد أكثر من ثلاثين عاماً على إنتاجه، في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ ال110 العام الماضي 11 ديسمبر 2021.
يتميز هذا الفيلم الوثائقي أنه يصور ولأول مرة أماكن حياة ومعيشة نجيب محفوظ وشخوص رواياته، وهو من النادر أن يتم تصويرها وعرضها على التليفزيون وللجمهور الأجنبي والعربي، و هذا ما سيشجع الجهات المعنية بعمل توثيق للمزارات المحفوظية.
حياة نجيب محفوظ كما يروي عنه مخرج الفيلم، الكاتب والمفكر وصانع الأفلام الوثائقية طارق علي، إنه كاتب شديد التواضع وهو ما نراه منعكس بشكل كبير في أدبه ، فأعماله من الأعمال التأملية الهادئة، التي تقدم بانوراما عن البلد الذي يعيش فيه وعن شعبه، وحتى طريقة سرده تتم بعناية.
وهو ما يظهر خلال هذا فيلم حياة نجيب محفوظ، حيث جعلنا نشاهد الشوارع والمقاهي القديمة في القاهرة التي نشأ فيها، وأعاد للثقافة العربية والمصرية الحياة.
يبدأ فيلم حياة نجيب محفوظ بلقطات عديدة من منطقة الحسين والجمالية وخان الخليلي والقاهرة الفاطمية، وهى المناطق التي دارت حولها العديد من الروايات الهامة للأديب الراحل، والمنطقة التي عاش فيها نجيب محفوظ واستقى منها ما روى خياله وذهنه، ليُخرج إلينا درر من إبداعه.
هنا نجيب محفوظ في زقاق المدق، حيث جرت أحداث راويته الشهيرة، هنا كان يعيش عم كامل بائع البسبوسة السمين، العطار على جهة اليمين وأمامه الحلاق، وبالواجهة بيت حميدة.
حارة قرمز، حيث ولد نجيب محفوظ، ولكن المنزل قد هدم من فترة طويلة، ويحكي أنه كان يذهب إلى الكتاب مشيا ويستمتع خلال ذلك بتجواله في الحارات والأزقة بكلام الشعراء ورواة السير على المقاهي المختلفة، فكانت هنا بداية انجذابه لعالم الحكاية والسرد.
ويوثق العمل شهادة نادرة متكاملة حول حياة نجيب محفوظ حول رواياته وعالمه ومسيرة الأدب المصري، وتاريخ البلاد في القرن العشرين، وإذ تمثل هذه الوثيقة البصرية قيمة مهمة للأجيال الجديدة عن حياة نجيب محفوظ.
و في خلال فيم حياة نجيب محفوظ يشدد أستاذ الأدب الإنجليزي محمد عناني، على أهمية محفوظ في الأدب حيث يقول أن محفوظ يقارب أهمية تشارلز ديكينز و إيميل زولا وأورونيه دي بلزاك في الأدب الإنجليزي و الفرنسي، فمن خلال قلمه نعيش في منطقة الجمالية في القرن العشرين و نرى حياة الناس بها و مآلاتهم.
كما أن المكان يلعب دور كبيرا في أدب محفوظ فهو يمثل الهوية كما في رواية زقاق المدق، كما أن الشخصيات هي جزء لا يتجزأ منه فهم كالمباني و الحجارة لا يمكن فصلهم عن بيئتهم فهم متوحدون معها محتمين بها، لا يستطيعون مواجهة الحياة الحضرية بخارجه.
و تعلق دكتورة سيزا قاسم، أستاذ النقد الأدبي، على رواية زقاق المدق و شخصية حميدة، و ترصد رمزيتها إلى مصر المعاصرة و سعيها إلى الحداثة بمحاولات خروجها من الحارة إلى باقي عالم المدينة المفتوح.
و عن أولاد حارتنا يقول الأستاذ الدكتور عبد المحسن طه بدر، رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو في طليعة النقاد المهتمين بالأدب المحفوظي وحياة نجيب محفوظ.
فيسرد أن المشكلة المثارة برواية أولاد حارتنا قد تكون متعلقة بشخصية عرفة المذكورة بالراوية، حيث حاولت أن تتعرف بالعلم على الكون الروحي، وهي تمثل فترة واضحة في تاريخ البشرية، حيث الصراع بين العلم والدين.
بعد زقاق المدق سعى محفوظ إلى الثلاثية و هي أحد أكثر أعماله شهرة و طموحا، حيث أنها ملحمة عائلية تغطي ثلاثة أجيال، وأشادت بها لجنة نوبل في خطابها لمسوغات منحه الجائزة.
و يعلق الأديب الكبير جمال غيطاني عن مدى ارتباطه الكبير بها لدرجة حفظه لصفحات كاملة منها، وكيف ارتبط بشخصياتها.
أن يجد شبه نفسي كبير بينه وبين أحد أبطالها وهو كمال ابن السيد أحمد عبد الجواد الفتي اليافع في الجزء الأول كثير الأسئلة والمحرك لكثير من الأحداث دون أن يدري بطفولته وسذاجته مدى التغيير الذي سيطول الواقع جراء أفعاله الطفولية الساذجة.
ويحكي نجيب محفوظ بنفسه عن حاجته مع الكم الكبير من الشخصيات عمل ملف مفصل لكل شخصية بحيث يقدر أن يتتبع حيواتها و تطورها الشكلي والنفسي ليحافظ على الإيقاع المنضبط للرواية وأحداثها، وينتقل بنا الفيلم الوثائقي بكاميراته إلى ميادين مصر القديمة برفقة نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ليرونا أماكن أحداث الرواية.
وأين كان يعيش شخوصها، كيف تأثرت بالأحداث الواقعية وقتئذ أثناء ثورة 1919 و أحداث نفي الزعيم سعد زغلول، و أين كان يعسكر الاحتلال الإنجليزي وقتئذ، ثم تنتهي الثلاثية بشكل جعله نجيب محفوظ و كأنه نهاية لحقبة زمنية و بداية حدوث تغييرات جذرية بالمجتمع المصري.
ويقول نجيب محفوظ أن من ضمن المعضلات التي واجهها هو أنه اتجه للكتابة في مجال الخيال الواقعي، وفي تلك الأثناء كان يقرأ نقد الأدباء الغربيين لذلك الأسلوب وانه أسلوب منتهي ولا يصلح للعصر الذين يعيشونه.
وفي حياة نجيب محفوظ مما واجهه هو اللغة المزخرفة والتقليدية لا تصلح مع هذا الأسلوب لذلك اضطر أن يجد حلا لتتطور اللغة لتتناسب مع ما يكتب وينتج، وهو شيء ملاحظ بقوة في أعمال الأديب الكبير.
ومن ضمن معلومات عن نجيب محفوظ تزامنت نهاية كتابة الثلاثية، نهاية الحكم الملكي بمصر و بداية الجمهورية المصرية بثورة الزعيم جمال عبد الناصر و عقد اتفاقية جلاء الإنجليز ، فاختفت كل الأسماء التي كان يوجه لها النقد واللوم بين ليلة وضحاها، لينعقد بذلك خيال نجيب محفوظ و يصاب بسدة كتابة لمدة خمسة سنوات.
في عام 1959، بعد فترة من الانقطاع عن الكتابة الروائية دامت خمسة أعوام و اضطر فيها أن يتعلم كتابة السيناريو، كجزء مهم في حياة نجيب محفوظ ينشر نجيب محفوظ روايته الأكثر إثارة للجدل – حتى الآن – أبناء حارتنا والتي عرفت مترجمة باسم أبناء الجبلاوي.
حيث وجد أن الحياة قد دبت في قلمه مرة أخرى، فأتته فكرة كتابة تلك الأحداث الواقعية واختار لها مسرحا هو يعرفه جيد و هو الحارة المصرية، حيث تدور أغلب رواياته، وهي من ضمن ترشيحات كتب مهمة لأديب العرب نجيب محفوظ.
تعلق أستاذة الأدب الإنجليزي رضوى عاشور، إنها رواية فلسفية رمزية عن صراع الإنسان بين العلم و الدين، الخير و الشر، و أن اختيار محفوظ للحارة لتمثيل أفكاره الفلسفية هو اختيار ذكي و مدهش.
الرواية كانت قد نشرت مسلسلة في جريدة الأهرام المصرية عام 1959، و لكن حدثت بعد الصدامات مع شيوخ من مؤسسة الأزهر الشريف، فتم منعها، و راحت في طي النسيان حتى بعد نشرها في بيروت عام 1966.
ولكن عندما تم ذكرها من قبل لجنة نوبل في حيثيات استحقاق نجيب محفوظ للجائزة، ظهرت مرة أخرى على السطح بمشاكلها وصراعاتها.
و من التعليقات النادرة المسجلة للأديب النوبلي أنه يري أن المتطرفين في كل زمان هم ضد كل شيء على طول الخط، وأنه يجب أن يظهروا للسطح حتى يتثنى لنا الحوار معهم ومساءلتهم عما سيفعلونه في أمور الدنيا، ولكنهم مختبؤن خلف الشعارات الرنانة والتي لها سحر وبريق الدين لا سحر أفكارهم و معسول كلماتهم.
ويذكر مازال يمارس هواية المفضلة وهي المشي في شوارع القاهرة، ولكنه يقارن بين الماضي والحاضر وقتئذ، حيث يرى أن المدينة ازدحمت وازداد التلوث والضوضاء وامتلأت الشوارع ببشر ربما كانوا يسكنون القطر المصري كله وقت ولادته لكنهم الآن مكدسين في مدينة واحدة.
وهذا عكس ما كانت عليه القاهرة قديما حيث كانت صغيرة و نظيفة، و لكنه يرى أن مع ذلك كله تطور العمران و أصبح هناك العديد من الجامعات والمدارس والمصانع و وسائل النقل المختلفة.
ولكن هذه السرعة وانحسار الناس في ذواتهم كان له تأثير كبير في الموسيقى والأدب والفنون حيث جعل الكل يبحث عن إيقاعات سريعة و ضطربة، والاتجاه نحو مغامرات جديدة وأكثر إثارة للدهشة، و ذلك لجذب انتباه الناس، هو تغير كبير يوازي التغير الذي حدث بالمدينة.
ثم يتحدث فيلم حياة نجيب محفوظ عن الأديب الراحل جمال الغيطاني، وهو كما يقول نجيب محفوظ وثبت فوق الزمان الماضي لمنطقة الجمالية الذي كان يكتبه برواياته فيستعمل روحها القديمة ولكن بإيقاع جديد وأكثر معاصرة.
يحكي جمال الغيطاني، كيف أنه عاش بتلك الحارة حيث كانت بالقرب من شارع قصر الشوق، اسم رواية محفوظ الشهيرة، أن الحياة هناك على بساطتها كانت هنالك ود وترابط بين ساكني منازلها كأنها قرية صغيرة، وهو كما يروي في كتابه البصائر في المصائر.
ثم يروي أن الحارة بدأت تفقد ترابطها في العصور التالية كما في السبعينيات حيث عصر الانفتاح وسفر العديد من الأهالي للخارج للعمل للبحث عن فرص عمل، فأصبحت العديد من الأماكن كالمسوخ فترى جامع أثري عتيق أمامه بدلا من البقال التقليدي محل بوتيك على حد تعبير جمال غيطاني.
موضوع التفكك الأسري، وتعقد وتشابك العلاقات الإنسانية شغل أيضا الأديب نجيب محفوظ فكتب رواية حديث الصباح و المساء، وهي ملحمة أسرية أيضا مثل الثلاثية ولكن بعد ثلاثين عام من كتابتها اختلف فكر الناس، فأصبحت القيمة للإنسان أن يحقق ذاته بأي ثمن.
وهذه كانت القيمة المدانة في كل روايته السابقة، كشخصية محجوب عبد الدايم في رواية القاهرة الجديدة، وهو شخصية مريضة لا يرجى لها الشفاء تحاول بكل الطرق الميكافيلية الوصول لمبتغاها مهما أنفق قبل ذلك من قيم و مبادئ.
ويري نجيب محفوظ أن حصول على جائزة نوبل كانت فرصة طيبة للأدب العربي، فقد تلقى مئات الرسائل من كافة أنحاء أوروبا يتساءلون عن الأدب العربي.
ويؤكد جمال الغيطاني أن الدرس المهم الذي تعلمه من نجيب محفوظ هو أن الأدب عمل دؤوب وليس مجرد نزوة، فهو يحتاج إلى انفاق وقت غير يسير في القراءة والكتابة ويستشهد على ذلك بحياة نجيب محفوظ ذاته.
ويختتم فيلم حياة نجيب محفوظ بمشاهد لمدينة القاهرة وحواري وأزقة منطقة الجمالية، حيث يسير الأديبان الكبيران متجاورين، في محبة الأستاذ الكبير لتلميذه النجيب، حيث يعلمه أساسيات الصنعة وينقل له خبراته المتراكمة، حتى يسطر كل منهما كلماته في أدب معاصر يحق لنا أن نفخر به وأن نحتفي بهما حتى بعد مرور السنون على وفاتهما.