خان الخليلي شارع وسوق ووجهة سياحية مهمة اختزلت القاهرة القديمة وبعمر تخطى الـ 600 عام، هنا في قلب القاهرة القديمة يقع خان الخليلي، ببازاراته ومحلاته ومطاعمه الشعبية الطاغي عليها الطابع التراثي، هنا في هذا الخان يكثر الزوار والمريدون، وتتزاحم على أبوابه السياح.
إنه خان الخليلي أحد أحياء القاهرة القديمة، وأكثر الأسواق التراثية والشعبية شهرة في مصر، تشكل واجهته محلات مزينة ببضائع ملونة كأنها لوحة من لوحات المدينة.
في هذا المكان تفتقت قريحة أهم الكُتاب والأدباء والفنانين، فكتبوا له وعنه أعمالاً أدبية ذاع صيتها، فغاصوا في شخصيات المنطقة ولخصوا السوق ومن فيه بلمسة أدبية رائعة، حافظ هذا السوق على معالمه الواضحة.
أصبح رمزًا من رموز القاهرة القديمة، فإذا جئت زائرًا لها ولم تزر خان الخليلي فكأنك لم ترَ من القاهرة القديمة إلا النزر.
وبهذا الارتباط المتين ما بين القاهرة القديمة وخان الخليلي، تكون بزيارته قد حكمت على نفسك أن تحب القاهرة حبًا أبديًا، وتعلن رسميًا عن وقوع القاهرة في قلبك، وكلما ذهبت ستعود لها مجددًا.
وبهذه الزيارة ستحصل على شارة الشرف بزيارة أحد أقدم أسواق مصر المحروسة والشرق قاطبة، تشتم هنا رائحة مصر في العصر القديم، وتقترب من صندوق الحكايات الذي احتفظت به المدينة في شوارعها وأسواقها الأثرية كـ خان الخليلي والمعز بدين الله.
اليوم وفي هذا المقال سنتعرف على قبلة يتجه لها كل متذوق للجمال، وكل مقدس للقطع الأثرية والحِرف اليدوية، وكل مهتم بما هو قديم وشعبي، وسنتعرف على حكاية هذا الخان الذي كتب في كتب التاريخ المصري، وسبب تسميته بـ خان الخليلي، ولماذا بُني على أنقاض مقبرة قديمة.
نعود قليلاً إلى الخلف، حيث لحظة قدوم المعز لدين الله الفاطمي، أحد الخلفاء الفاطميون وهم الذين حكموا مصر لمائتي عام قبل المماليك، وهو قادم من المغرب باتجاه مصر لحكمها، ناقلاً معه عدته ورفات أجداده الخلفاء ومن سبقوه في الحكم.
وعندما وصل القاهرة واستقر بها، اختار موقع لدفن رفات أجداده وأطلق عليه اسم مقابر الزعفران، ويمر الزمن وتسقط الدولة الفاطمية، ويأتي صلاح الدين الأيوبي ويحكم مصر لثمانين عامًا بفكر وتوجه ديني مختلف عمن سبقوه، ثم يرحل الأيوبيون ليأتي بعدهم المماليك.
وفي تاريخ الدولة الطويل بتعاقب الحكام المماليك، كان هناك حاكم يدعى السلطان الظاهر برقوق، في يوم من أيام العام 1382م وفي فترة حكمه، كان هناك في مصر أمير من أمراء المماليك يدعى الأمير الخليلي المعروف باسم الشريف الخليلي والملقب بـ الأمير أخور.
وهو أحد أكبر التجار في عصر السلطان الظاهر برقوق حاكم مصر في وقتها، والمشرف على الاسطبلات والبريد، ويعود أصل الأمير الخليلي إلى مدينة الخليل في فلسطين، وهو واحد من الأمراء المماليك الجراكسة.
قرر هذا الأمير أن ينشئ مبنى يحمل اسم الخليلي نسبة إلى لقبه، وقد كان له ما أراد، فتم اختيار الاسم والبُناة وخصص له المال، وبقي شيء واحد، هو الموقع، فأين يا ترى سيبني الأمير خانه؟ هذا ما احتار فيه، والذي انتهى به المطاف في النهاية إلى موقع مميز بالقرب من مسجد السلطان الظاهر برقوق.
به كل ما يغري ويميز عن باقي المواقع، إلا شيء واحد بقي معيق له، وهو أن هذا الموقع هو نفسه المقبرة التي دفن فيها المعز لدين الله رفات أجداده، وعُرفت باسم مقبرة الزعفران، حاملة في جوفها رفات الخلفاء الفاطميين.
وبهذا العيب الوحيد في الموقع، والذي سيجعل من أي إنسان آخر أن يصرف النظر ويبحث عن موقع آخر، إلا أن الأمير جهاركس لم يصرف النظر ولم يرد إلا هذا الموقع لخانه.
وبالتالي ذهب قاصدًا شيخ يدعى شمس الدين محمد القليجي أحد مشايخ دار الإفتاء، ليأخذ منه الإفتاء الشرعي، فيجيز له هذا الأخير بأن ينبش القبور ويبني ما أراد طالما وأنها حسب فتوى الشيخ بقايا جثث لكفار يجوز نبشها.
وفعلاً تم تجهيز العدة بأفضل العتاد، وتوجه العمال إلى موقع المقبرة، ونُبشت القبور وحُمل الرفات على ظهور الدواب ويقال أنه تم رميها في مقلب قمامة كان يعرف وقتها باسم “كيمان البرقية”، وهو موقع حديقة الأزهر حاليًا.
وبنى الأمير مبناه، ليكون على شاكلة الاستراحات التي تقف عندها القوافل التجارية وهو ما يشبه حاليًا اللوكندات أو الفندق الصغير أو النُزل، وهو السبب في تسميته بـ الخان. كما وتقام فيه طقوس التجارة من بيع وشراء.
ولكن وبعد مرور عدد من السنين، وتحديدًا في العام 1389م، يحدث شغب وفوضى وعصيان وتمرد على الدولة المملوكية في الشام، ليقرر معها السلطان برقوق أن يرسل الأمير جهاركس الخليلي إلى مدينة دمشق ليكون قائداً لجيش قوامه خمسمائة جندي في معركة عُرفت بمعركة الناصري.
وفي كتب ثقافية ذُكر أن هناك وفي معركة حامية الوطيس، يلقى الأمير جهاركس حتفه، وتُترك جثته مكشوفة في الخلاء لعدة أيام حتى تحللت، وهو ما وجد فيه المؤرخ العربي المعروف باسم المقريزي أنه نوع من أنواع الجزاء على انتهاك حرمة الميت في جثث من سبقوه عندما أراد أن يبني خان الخليلي.
وعلى الرغم من ذلك فقد قال عنه المقريزي واصفًا شخصيته “كان خبيرًا بأمر دنياه كثير الصدقة ووقف خان الخليلي وغيره على عمل خبز يُفرق بمكة على كل فقير منه في اليوم رغيفان“.
وهكذا يرحل الأمير جهاركس وتمر السنوات وبعد قرابة الـ 122 سنة، وفي عهد السلطان قنصوه الغوري تحديدًا العام 1511م، يتم هدم استراحة خان الخليلي القديمة، ويُبنى بدلًا منها مباني جديدة تستوعب وكالات تجارية أكثر ومحلات أكثر ويتم الدخول لها من ثلاث بوابات.
وهكذا وبتعاقب السنوات يُعاد بناء خان الخليلي أكثر من مرة، مع عمل بعض الإضافات، وبهذه القصة ندرك أن خان الخليلي لم يكن مجرد سوق تجاري، بل أكثر من ذلك بكثير، فهو موقع تاريخي زينته بقايا آثار العصر المملوكي في مصر، وشارع أسسه الأيوبيون وطوره المماليك.
يذكر أن حي خان الخليلي يعد واحدًا من ضمن ثمانية وثلاثين سوقًا بُنيت في زمن المماليك، ووُزعت في أرجاء القاهرة ومحاورها الرئيسية، أما خان الخليلي فقد يكون بصورة أو بأخرى أشهرها وأكثرها صمودًا أمام تقلبات الزمن.
هذا بالإضافة لموقعه الاستراتيجي الواقع في مركز القاهرة القديمة، وبالقرب منه جامع الأزهر الشريف، ومسجد الحسين وساحته الشهيرة، وفي المسجد رأس الحسين حفيد النبي محمد وابن علّي رضي الله عنه.
وقد كان خان الخليلي أحد أهم ممرات التجارة في العصر الذهبي لتجارة التوابل، حيث كانت القاهرة أحد المراكز التجارية المهمة، وأسواقها هي محطات للقوافل التجارية المحملة بالبضائع من بلاد الهند إلى البحر الأبيض المتوسط ذهابًا وعودة.
وبسبب وقوع خان الخليلي على أحد نقاط الممر التجاري العالمي وقتها، تم نقل أسواق عالمية له، وفُتحت فروع لأسواق أخرى فيه، ليشكل بذلك واجهة اقتصادية تجارية مهمة للمدينة.
جاء التخطيط الأول للخان، وعلى حسب قول المؤرخين، على شاكلة الأسواق التقليدية القديمة، مربع الشكل يحيط بمساحة داخلية مكشوفة تشبه الفناء الواسع، ويُقسم المبنى إلى طوابق، السفلى منها محلات، والعليا منها مخازن وسكن.
أما وبعد هدم الخان، فقد طور الحكام المماليك اللاحقين الشارع بكل، ليحمل اسم خان الخليلي، ويصبح معها حي وسوق تجاري، ويستقبلك كبداية وقبل الدخول لحي خان الخليلي، مقهى معروف باسم الفيشاوي.
ثم هناك خلفه حيث الأزقة الضيقة والحواري العتيقة، والأرض المبلطة بحجر بازلتي أسود اللون ذو لمعة خفيفة، أما أسقف المحلات والسوق فقد صُنعت من الخشب متين الصنع والإنشاء.
أما الواجهات فبرزت منها المشربيات كإضافات أكدت على جمال الفتحات وأعطت لأسواق القاهرة القديمة طابع مميز يخاطب القلب مباشرة، وجاءت المباني متلاصقة تفصل بعضها البعض الأزقة والممرات الضيقة والتي قد تكون أحد أهم أسباب تدفق مشاعر الألفة التي تغمرك وأنت تمر بها.
وحتى وإن تهت فيها وهي المخططة كالمتاهة، ستجد الوجوه الباسمة تطل عليك من المحلات تدلك على الطريق فتغمرك الطمأنينة وكأن معرفتك بهم ممتدة عبر الزمن.
وهناك سُبل الماء الموزعة في الطرقات والمصنوعة من النحاس التي وضعت لإرواء عطش المارة المتدفقين من كل صوب، ثم المحلات المتناثرة في كل زاوية، والتي جاءت في الأصل لتكون أشبه بالمعرض الدائم أو المول التجاري للعصر القديم.
بحيث تُعرض فيها أنواع من نفس البضاعة بجودة وأسعار مختلفة متنوعة، يترك للمشتري فيها حرية الاختيار.
في هذا الحي وبين جنباته ومن وحي واقع الحياة هناك الذي عايشه الأديب نجيب محفوظ بنفسه ونمت الرغبة الملحة في الكتابة عنه. فكتب عن حي الخليلي وأنتج واحدة من روائعه الأدبية حاملة اسم خان الخليلي.
وهي التي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي لاحقًا، وجاء وصفه للخان وصفًا دقيقًا، معماريًا وإنسانيًا، فقد وصف الخان كأبنية وشوارع ووصفه كبشر وعلاقتهم مع بعضهم البعض.
فلا أجود من وصف محفوظ لهذه البقعة المعمارية قائلاً:
“ستجِد في الشارع الطويل، عِمارات مربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصليّ، وتزحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت (أيّ الدكان)؛
فدكان للساعاتي وخطاط وآخر للشاي، ورابع للسجاد وخامس للتحف وهكذا. بينما يقع هنا وهناك مقاهي لا يزيد حجم الواحدة منها عن حجم الحانوت (الدُكان) الصغير، وقد جلس الصناع أمام الدكاكين يكبون على فنونهم في صبر“.
وعن حي الحسين الذي يقع فيه خان الخليلي يقول:
“أنت لا تدري عن حي الحسين شيئًا، فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة راس، هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلاً ونهارًا.. هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جارًا ومجيرًا“.
ومن شدة ارتباط خان الخليلي بـ نجيب محفوظ، هناك حيث يقع ما يسمى بـ درب البادستان، واحدة من أهم مواقع الخان، يوجد ما يسمى بـ مقهى نجيب محفوظ.
حيث تم افتتاحه في العام 1989م، وكان اسمه في الأول مقهى خان الخليلي، إلا أن وفي نفس سنة التأسيس تم منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، فقرر صاحب المقهى أن يغير اسم مقهاه إلى اسم نجيب محفوظ تكريمًا له، خاصة وأن محفوظ كان كثيرًا ما يرتاده ويستمتع بأجوائه.
وفي هذا المقهى مقعد خاص كان يجلس عليه محفوظ، وقريب من المقهى حي الجمالية مسقط رأس محفوظ، وكأنه بمكوثه على ذلك المقعد في هذا المقهى بالذات كان يعيد إيقاظ الذكريات في قلبه وذاكرته.
إنه الموقع الذي ينافس الخان شهرة، فمثلما أن زيارتك لمصر القديمة دون المرور بـ خان الخليلي كأنها ناقصة، فكذلك الحال بالنسبة لـ قهوة الفيشاوي، إذا زرت خان الخليلي ولم تزر قهوة الفيشاوي فإن زيارتك للخان لم تكتمل بعد!
هنا في هذه القهوة اجتمع الأدباء والمفكرون وصفوة القوم للدردشة وتبادل أطراف الحديث، وشرب الشاي أو القهوة، فتذهب في رحلة اللا عودة مع الزمان، هنا وعلى أحد مقاعد المقهى جلس نجيب محفوظ في ستينات القرن الماضي، وهنا زار المقهى مشاهير وسياح والتقطوا الكثير من الصور.
يقصدها الناس من كل مكان، حبًا لها وتعلقًا بذكرياتهم فيها، مقهى تذهب له لتستحضر الذكريات أكثر من احتساء القهوة، لابد وأن في أجوائه سر ما لم يُكتشف بعد، هذه القهوة التي تعد أقدم وأشهر مقاهي القاهرة والوطن العربي، تم تأسيسها عام 1769م ليتخطى عمرها المائتي عام.
يقع خان الخليلي حاليًا في حي الحسين في القاهرة، في شارع موازي لشارع المعز لدين الله الفاطمي، ويجاوره صرحان دينيان هما الأشهر على الإطلاق، الأول جامع الأزهر، والثاني مسجد الحسين.
ولازال أسلوب العرض نفسه، بحوانيت أو دكاكين متلاصقة، وباعة يعرضون بضاعتهم بكل بساطة وشغف، يستقبلك الناس فيها ببشاشة، يدعونك إلى شرب الشاي والضيافة.
كالبازارات أو المعرض المفتوح على مدار العام، ذهب الماضي وبقي الأثر، سوق وحي جاذب لسكان المنطقة والسياح، فهناك ستجد أنواع مختلفة من الأقمشة والملابس الملونة، وهناك الإكسسوارات والقلادات الجاذبة لعيون النساء، منها ما هو محلي الصنع ومنها ما هو مستورد، بأسعار مختلفة ومتنوعة، وبنكهة تحمل الكثير من التراث في التفاصيل.
وهناك المسابح المصنوعة من الخشب أو بذر الزيتون أو الفيروز أو الأحجار الكريمة، وحتى من البلاستيك، وهناك العقيق اليماني، والزمرد الهندي، وأنواع البخور والعود السعودي والسوداني، وهناك مصر في زمن الفراعنة بالورق البردي والتحف والتماثيل الصغيرة.
كما ويوجد فيها أنواع من الفضيات والنحاسيات، وقطع من الذهب، بالإضافة للمشغولات والحِرف اليدوية متقنة الصنع التي عكف عليها صناع مهرة أيام وربما شهور.
كما وتوجد العديد من التحف الأثرية المقلدة، والفوانيس بمختلف الأحجام والأنواع، والأباجورات المصنوعة من الزجاج المعشق، وهناك قسم خاص به محلات للمصنوعات الجلدية.
وهناك شارع الموسكي حيث تعرفه ليس من لافتة تدل على اسمه، وإنما من روائح تهب من زقاقه حيث العطور والمسك والعنبر من الشرق والغرب مجتمعة هناك تباع لك في قوارير، يصنعها لك العطار لتجد بينها ما تطيب به نفسك.
في هذه الأزقة وفي هذا الخان ستتجرد من المظاهر، وستجد الحرية حيث يتاخم النفيس الرخيص، حيث القيمة الحقيقية للأشياء هناك وقبل كل شيء تُكتسب من تقديرك لها أولاً وتقديرك لعراقة المكان ثانيًا.