حظى الله مصر بمعالم كثيرة ميزتها عن غيرها من الدول، وجعلتها جاذبة لقلوب وأرواح البشر من كل أنحاء العالم، لدرجة أن من زارها مرة اشتاق إليها، ومن لم يسبق له رؤيتها تلهفت نفسه لزيارتها. ففي مصر تمتزج الطبيعة الساحرة بالتاريخ الإنساني ليشكلا نموذجاً متفرداً، ولقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي محقاً حين أكد أنه سيكون مشتاقاً لمصر بجمالها حتى وإن جذبته جنة الخلد بعظمتها. وقد حبا الله مصر بأرض الفيروز “سيناء” تلك الأرض الغالية في قلب كل مصري بمقوماتها الطبيعية وتضحيات أبناءها، والتي ميز الله أرضها ومعالمها السياحية ومزاراتها الدينية بقوة روحانية لا تُنافس.
كل هذه المنح الربانية تثير تساؤلي دائماً.. كم نحن كمصريين محظوظين ببلدنا المباركة، إلا أن الكثيرين منا لا يعرفون قدرها. ويزداد يقيني كل لحظة كلما قادني حظي أو سنحت لى الظروف لزيارة بعض المعالم المصرية، وهو ما حدث معي قبل بداية شهر رمضان الماضي بعدة أيام. فبعيداً عن ضغوط العمل وضجيج الحياة وزخم الأحداث، كانت النفس بحاجة إلى استراحة قصيرة للاسترخاء والتفكر والتدبر والتأمل وتفريغ الطاقات السلبية وتحرير المشاعر، وسنحت لي فرصة للذهاب فى رحلة روحانية قصيرة لمدة 3 أيام مع مجموعة من الأصدقاء لمدينة سانت كاترين الساحرة.
تلك المدينة التي تقع على هضبة ترتفع 1600 متر فوق سطح البحر في قلب محافظة جنوب سيناء، وتبلغ مساحتها 5130 كم مربع، وتحيط بها مجموعة من الجبال هي الأعلى في سيناء وفي مصر كلها؛ كجبل كاترين وجبل موسى وجبل الصفصافة، ووهبها هذا الارتفاع مناخاً متميزاً معتدلاً في الصيف شديد البرودة في الشتاء، مما يعطي لها جمالاً خاصاً عندما تكسو الثلوج قمم الجبال وأرض المدينة. وقد أُعلِنَت المنطقة محمية طبيعية لما لها من أهمية طبيعية وتاريخية ودينية. وتشتهر المدينة بالسياحة الدينية وسياحة السفاري وتسلق الجبال، ويوجد بها دير سانت كاترين وجبل موسى ومقام النبي هارون وغيرها من الآثار الدينية، وتعتبر أكبر محمية طبيعية في مصر من حيث المساحة.
لقد كانت رحلة روحانية شيقة ومثيرة للشغف، فمنذ بداية الرحلة لسانت كاترين براً بدأت المتعة؛ فطريقها لوحة فنية بديعة تمزج بين سحر الطبيعة وعظمة البناء والتعمير الذي يتحقق فى الجمهورية الجديدة في كل شبر على أرض مصر. وفوق كل هذا، لم يستغرق الطريق لمدينة سانت كاترين سوى 5 ساعات فقط تخللها الوقوف مرتين فى استراحتين، استغرقت كل مرة 15 دقيقة تقريباً، حتى وصلنا إلى سانت كاترين وسط حفاوة استقبال بالغة من الشيخ “موسى” صاحب الفندق الكامن وسط الجبال الشامخة فى مشهد يبهر الأعين من روعة الجمال.
وأدركت بعمق سر اختيار الرئيس الراحل “محمد أنور السادات” لسانت كاترين كاستراحة خاصة للاعتكاف والتأمل!..فهي المكان المثالي للتخلص من التوتر والإجهاد واستعادة التركيز قبل اتخاذ قرارات مصيرية. فبمجرد دخولك مدينة سانت كاترين، تشعر براحة العقل وطمأنينة القلب وهدوء النفس وسمو الروح، وسط سلاسل من الجبال شاهقة الإرتفاع وبينها جبل موسى الذي شهد التجلى الأعظم لرب العزة جل وعلا، وعليه ناجاه كليم الله موسى عليه السلام، كما تضم المدينة مقام النبى هارون الذي يضفي على المدينة المزيد من الأجواء الروحانية.
وقد كان الجو ممتعاً ومثالياً لاستعادة نقاء النفس وتحليق الروح، وتنوعت الأنشطة اليومية بين تمارين اليوجا والمشى وتسلق الجبال، والنشاط الأهم هو التنفس! نعم التنفس بالطريقة الصحية، حيث أكتشفت أثناء ممارسة تمارين التنفس بعمق أن أغلب المجموعة لا يعرفون الطريقة الصحيحة للتنفس حتى أنا!. وكانت وجبة الإفطار فى حد ذاتها متعة أخرى مع الشاي بالحبق، ثم وجبة المندى الشهية التى يصعب أن تستطعم بعدها أى لحم!. كما تبادلتُ الحوار مع بعض أهل المدنية من البدو واستمتعت بحياتهم الثرية وبالعادات والتقاليد والقيم المصرية والعربية كالشجاعة وكرم الضيافة، واشترينا العسل الجبلى المتميز وزيت الزيتون وبعض الأعشاب كالزعتر والمرمرية.
ورغم أنني اتسم بالجدية والعقلانية ولغة الأرقام بحكم العمل في مواقع قيادية وحساسة، إلا أنني وجدتُ مشاعراً مختلفة فى كل نشاط بسانت كاترين، فما أجمل الإحساس الذي شعرت به أثناء أقامتى هناك! وما أروع سحر جبالها التى تتحول إلى قمم من الثلوج فى الساعات الأولى من الصباح أيام الشتاء! وما أعظم هذه المدينة التى تعيش فيها المعنى الحقيقى للأمن وأسمى معاني السلام.
والحقيقة المؤكدة أن مشهد التجلي الأعظم فى سانت كاترين كان رسالة ربانية للعالم بأن مصر ليست كغيرها لدى خالق الكون ومدبره، فهي البقعة الوحيدة فى العالم الذي تجلى فيها الله عز وجل على جبل المناجاة، الذي تلقى موسى عليه السلام الوصايا العشر، ليجعل من هذه الأرض المصرية بقعة مقدسة لا تقل فى قداستها عن أرض مكة المكرمة والقدس الشريفة، فهى مهد دير وكنيسة سانت كاترين التى تعد أحد أكبر مراكز الحج الدينية فى العالم منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا، وتعتبر ذات قيمة دينية وأثرية وتاريخية عظيمة، كما أنها تحتوي على آلاف المخطوطات الأثرية باللغات اليونانية والعربية وغيرها. وهناك أيضاً الشجرة العليقة المباركة، وهى الشجرة المقدسة التى رأى عندها نبى الله موسى نارًا تشعل فرع الشجرة فيزداد خضرة فالنار لا تحرق! وعندها سمع صوت الله سبحانه وتعالى. كما يوجد المسجد الفاطمي في دير القديسة كاترين الذي تتعانق مئذنته مع برج الكنيسة في مشهد لا يتكرر إلا في مصر لتجتمع الأديان في بوتقة واحدة.
والواقع أن الجمهورية الجديدة كانت سباقة في رؤية هذه الثروة الروحانية، وأطلقت القيادة السياسية المصرية مشروع “التجلي الأعظم فوق أرض السلام” والذي يتضمن 14 مشروعاً رئيسياً تنتهي أواخر 2022 وهى (تطوير النزل البيئى القائم، إنشاء النزل البيئى الجديد، إنشاء ساحة السلام، إنشاء الفندق الجبلى، إنشاء مركز الزوار الجديد، إنشاء المجمع الإدارى الجديد، تطوير المنطقة السياحية، تطوير مركز البلدة التراثية، تطوير منطقة إسكان البدو، تطوير وادى الدير، إنشاء المنطقة السكنية الجديدة، إنشاء المنطقة السياحية الجديدة، شبكة الطرق والمرافق، الوقاية من أخطار السيول)، ويستهدف المشروع تسويق مدينة سانت كاترين عالميًا كوجهة للسياحة الروحانية باعتبارها ملتقى للديانات السماوية الثلاث. كما وجهت القيادة السياسية بتنفيذه بما يتسق مع الموقع المتفرد للمنطقة وروحانيتها وقدسيتها للإنسانية بأسرها.
ولقد كان التجلي الأعظم فى أرض سيناء رسالة إلهية إلى سكان هذه الأرض الطبية أنها محفوظة ومحمية دائماً بأمر الله وعلى يد العظماء المخلصين من أبناء هذا الوطن. وما رأيته من تعمير فى هذه الرحلة جعلنى على يقين أن رسالة التجلى الأعظم ستظل باقية فى مصر أبد الدهر، فمثلما كانت مهداً للأديان والأنبياء والصالحين، ستبقى مصر دائماً أرضاً للأمن والأمان والسلام، فكما ورد بالإنجيل: “ملاك الرب قد ظهر ليوسف في الحلم قائلاً قم وخد الصبي (المسيح عليه السلام) وأهرب به إلى مصر”، و”من مصر دعوتُ ابني”، “مُبارك شعبي مصر”… وستظل مصر كما قال البابا شنودة وطن يعيش فينا.