صلاح الدين الايوبي الملك الناصر أبو المظفر والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الُويني التكريتي، المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي، وفي تاريخ مصر الإسلامي تجد قائد مسلم أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية.
قاد صلاح الدين الايوبي عدة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر.
وقد تمكن في نهاية المطاف من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة كبيرة في معركة حطين.
ولد صلاح الدين الايوبي في تكريت في العراق عام 532 هـ 1138م في ليلة مغادرة والده نجم الدين أيوب قلعة تكريت حينما كان واليًا عليها، قضى صلاح الدين طفولته في دمشق حيث أمضى فترة شبابه في بلاط الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي أمير دمشق.
في كتب عن التاريخ تجد المصادر حول حياة صلاح الدين خلال هذه الفترة قليلة ومبعثرة، لكن من المعروف أنه عشق دمشق عشقًا شديدًا، وتلقى علومه فيها، وبرع في دراساته.
حتى قال عنه بعض معاصريه أنه كان عالمًا بالهندسة الإقليدية والرياضيات المجسطية وعلوم الحساب والشريعة الإسلامية، وتنص بعض المصادر أن صلاح الدين كان أكثر شغفًا بالعلوم الدينية والفقه الإسلامي من العلوم العسكرية خلال أيام دراسته.
وبالإضافة إلى ذلك كان صلاح الدين الايوبي ملمًا بعلم الأنساب والسير الذاتية وتاريخ العرب والشعر، فحفظ ديوان الحماسة لأبي تمام عن ظهر قلب، أيضًا أحب الخيول العربية المطهمة، وعرف أنقى سلالاتها دومًا.
كانت الدولة العباسية قد تجزأت إلى عدّة دويلات بحلول الوقت الذي ظهر فيه صلاح الدين، في أواسط القرن الثاني عشر، فكان الفاطميون يحكمون مصر ويدعون لخلفائهم على منابر المساجد ولا يعترفون بخلافة بغداد.
وكان الصليبيون يحتلون الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط من آسيا الصغرى إلى شبه جزيرة سيناء، والأتابكة يسيطرون على شمال العراق وسوريا الداخلية.
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين مقر الدولة الفاطمية، ولم يكن للخليفة الفاطمي بحلول ذلك الوقت سوى الدعاء على المنابر، وكانت الأمور كلها بيد الوزراء، وكان وزير الدولة هو صاحب الأمر والنهي، لذا أصبح أسد الدين شيركوه هو الرجل الأول في البلاد.
ودام على هذا الحال وصلاح الدين الايوبي يُباشر الأمور مقررًا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته طيلة شهرين من الزمن، عندما توفي أسد الدين، أسند الخليفة الفاطمي الوزارة لصلاح الدين.
لم يمر تولي صلاح الدين الايوبي وزارة مصر بسلام، فقد تعرض بعد بضعة أشهر من توليه لمحاولة اغتيال من قبل بعض الجنود والأمراء الفاطميين، وتبين أن المحرض الرئيسي على هذا كان مؤتمن الخليفة الفاطمي وكان خصيًا بقصر العاضد لدين الله.
وكان هذا الخصي يتطلع إلى الحكم فيه والتقدم على من يحويه فقُبض عليه وأُعدم، فحاك أرباب المصالح مؤامرة أخرى، حيث ملأوا صدور 50,000 جندي من فوج الزنوج بالحقد والكره.
وثاروا حمية على الوزير الجديد في القاهرة، لكنه استطاع أن يقمعهم ويكسر شوكتهم، وكانت تلك آخر انتفاضة ضد صلاح الدين تقع في المدينة.
بعد سقوط مصر في أيدي الزنكيين، بعث الملك عموري رسله لإرسال حملة صليبية جديدة شارحًا خطورة الأمر والتغير في ميزان القوى في المنطقة، فاستجاب البابا إسكندر الثالث وبعث رسائل إلى ملوك أوروبا.
لكنها لم تجد أذنًا صاغية، في حين نجح الرسول المرسل إلى القسطنطينية بسبب إدراك الإمبراطور عمانوئيل كومنينوس اختلال توازن القوى في المنطقة.
استعد صلاح الدين الايوبي بشكل جيد، فقد استطاع التخلص من حرس قصر الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله واستبداله بحرس موالين له، وكان ذلك لتأخر الحملة الصليبية ثلاثة أشهر، فأرسل صلاح الدين قواته بقيادة شهاب الدين محمود وابن أخيه تقي الدين عمر.
وقامت حامية دمياط بدور أساسي في الدفاع عن المدينة وألقت سلسلة ضخمة عبر النهر، منعت وصول سفن الروم إليها، ولاحق صلاح الدين الايوبي وجيشه فلول الجيش الصليبي المنسحب شمالاً حتى اشتبك معهم في مدينة دير البلح سنة 1170م.
فخرج الملك عموري الأول وحاميته من فرسان الهيكل من مدينة غزة لقتال صلاح الدين، لكن الأخير استطاع تفادي الجيش الصليبي وحوّل مسيرته إلى غزة نفسها حيث دمر البلدة التي بناها الصليبيون خارج أسوار المدينة.
بعد هذا الانتصار، ثبّت الزنكيون أقدامهم في مصر، وأصبح من الواضح أن الدولة الفاطمية تلفظ أنفاسها الأخيرة في الوقت الذي كان فيه العاضد لدين الله على فراش الموت مريضًا، ولم يلبث العاضد طويلاً حتى فارق الحياة.
فأصبح صلاح الدين الايوبي الحاكم الفعلي في مصر، ليس لأحدٍ فيها كلمة سواه، ونقل أسرته ووالده نجم الدين إليها ليكونا له عونًا مخلصين، وبهذا زالت الدولة الفاطمية تمامًا بعد أن استمرت 262 سنة.
أخذ صلاح الدين الايوبي يقوي مركزه في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية، ويسعى من أجل الاستقلال بها، فعمل على كسب محبة المصريين، وأسند مناصب الدولة إلى أنصاره وأقربائه، وعزل قضاة الشيعة واستبدلهم بقضاة شافعيين، وألغى مجالس الدعوة وأزال أصول المذهب الشيعي الإسماعيلي.
ثم أبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر، وأمر في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 565 هـ، الموافقة سنة 1169م، بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون جميعًا.
كما أسس مدرستين كبيرتين في الفسطاط هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يثبت مذهب أهل السنة في البلاد، وكانت هاتان المدرستان تُلقنان علوم الشريعة وفق المذهبين المالكي والشافعي.
وتخوف نور الدين زنكي من تزايد قوة تابعه صلاح الدين الايوبي، وكانت العلاقة بينهما على فتور أصلاً منذ أن تولى صلاح الدين الحكم في مصر، أخذ نور الدين زنكي يجمع جيشا ضخماً، في محاولة لخلع صلاح الدين في مصر على ما يبدو.
فأرسل رسلاً إلى الموصل وديار بكر والجزيرة الفراتية يحثون الرجال ويدعونهم للجهاد، غير أن تلك الحملة لم يكتب لها أن تتم، إذ وقع نور الدين بالذبحة الصدرية وبقي على فراش المرض أحد عشر يوما ليتوفى وهو في التاسعة والخمسين من عمره.
وبوفاة نور الدين، استقال صلاح الدين سيد مصر الأوحد بشكل فعلي، حيث استقل عن كل تبعية سياسية، ويقال أنه أقسم آنذاك أن يصبح سيفًا مسلولاً على أعدائه وأعداء الإسلام.
وأصبح هو رأس أقوى سلالة حاكمة إسلامية في ذلك العهد، هي السلالة الأيوبية، لذا جرت عادة المؤرخين على تسمية المناطق التي خضعت لسلطانه وسلطان تابعيه بالدولة الأيوبية.
أراد صلاح الدين الايوبي أن يوحد أراضي المسلمين ليكونوا قضبة واحدة ضد الصليبين، لذلك سعي لقيادة عدة حملات موسعة على الشام لضمها لحكمه، وكان نور الدين زنكي قد استخلف ولده الملك الصالح إسماعيل ذي الأحد عشر ربيعاً، أميراً على دمشق.
وبعد أن توفي نور الدين كان أمام صلاح الدين خياران أحلاهما مر: إما أن يُهاجم الممالك الصليبية من مصر ويتركها مفتوحة وعرضة لهجمات بحرية أوروبية وبيزنطية، أو أن ينتظر حتى يستنجد به الملك الصالح خاصةً وأنه ما زال صبيًا لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك.
كذلك كان أمام صلاح الدين خيار حاسم، وهو أن يدخل دمشق ويسيطر عليها ويتولى شؤون البلاد بنفسه، ويُحضرها لقتال الصليبيين.
دخل صلاح الدين دمشق في شهر ربيع الأول من عام 570 هـ، الموافق شهر نوفمبر من سنة 1174م، وأول ما دخل صلاح الدين كان دار أبيه وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي، واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق في ذلك اليوم مالاً كثيراً وأظهر السرور بالدمشقيين.
وصعد القلعة وتسلمها من نائب القلعة الطواشي جمال الدين ريحان بعد 4 أيام من وصوله، كما استناب صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين على دمشق قبل انطلاقه لضم باقي مدن الشام الداخلية التي استحالت مستقلة عن أي تبعيّة بحكم الأمر الواقع بعد وفاة نور الدين زنكي.
كان على صلاح الدين تنظيم كثير من الأمور في الديار المصرية بعدما غاب عنها حوالي سنتين قضاها في معارك متواصلة في الشام، وفي مقدمة هذه الأمور تحصين القاهرة وإعادة بناء أقسامها المهدمة.
وفي شهر جمادى الآخر سنة 573 هـ الموافق فيه نوفمبر من سنة 1177م أغار الصليبيون على ضواحي دمشق، فاعتبر صلاح الدين أن الهدنة مع مملكة بيت المقدس قد نُقضت وانتهى أمرها، وجمع الرجال وسار إلى فلسطين ليُغير على بعض المواقع الصليبية.
تحرك ملك بيت المقدس الشاب بلدوين الرابع بن عموري «الأبرص» أثناء وجود صلاح الدين على مشارف القدس، وسار بجمع فرسان الهيكل من مدينة غزة ودخل عسقلان، وصلت هذه الأنباء إلى صلاح الدين فعاد بقسم من جيشه إلى ضواحي المدينة.
لكنه تردد في مهاجمة الصليبيين على الرغم من التفوق العددي للأيوبيين بسبب وجود عدد من القادة المهرة المخضرمين في صفوفهم، وكان لهذا التردد أثره الكبير، إذ قام الصليبيون تحت قيادة الملك بلدوين وأرناط آل شاتيون صاحب الكرك بهجوم مفاجئ بتاريخ 25 نوفمبر من سنة 1177م.
وأخذوا الأيوبيين على حين غرة وهزموهم في تل الجزر بالقرب من الرملة، حاول صلاح الدين تنظيم صفوف الجيش وحشد الجنود مجددًا، لكنهم تشتتوا، وصرع في المعركة جميع حراسه، فآثر الانسحاب إلى مصر وإنقاذ ما تبقى من العساكر.
أيد الخليفة أحمد الناصر لدين الله السلطان صلاح الدين الايوبي في حروبه التي حارب بها الفرنج، وأمر الملوك في الأقطار الإسلامية بمعونته بجنودهم وجيوشهم كل على حسب طاقته الحربية، ولما فتح صلاح الدين القدس سنة 583هـ، ووصل الخبر إلى بغداد، بعث الناصر إليه بلوح منقوش مكتوب عليه:
“﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
الحمد لله الذي أنجز وعده ونصر عبده، وأقام خليفة القائم بحق الله، وسيد عترة رسول الله، وثمرة شجرته الطيبة المعرفة إليه أبا العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
أسبغ الله ظله على الإسلام والمسلمين وشد عضده بولده وولي عهده أبي نصر محمد عدة الدنيا والدين، وأعاد عليه تراثه وأصار إليه من البيت المقدس على رغم أنف المشركين، وهو المحمود على أن أجري هذا الفتح على يدي دولته وسيف نصرته يوسف بن أيوب معين أمير المؤمنين، وعلّق هذا اللوح على القدس الأعظم.
وفي آخر عهد السلطان صلاح الدين الايوبي، تحركت قوى الفرنج الصليبيين، فأرسلت إنجلترا جيشاً بقيادة ملكها ريتشارد الأول ملك إنجلترا الملقب بقلب الأسد، وفرنسا جيشاً بقيادة ملكها وألمانيا بقيادة إمبراطورها، وأوروبا جميعها للهجوم على الشرق؛ فاستغاث صلاح الدين بالخليفة الناصر لدين الله.
لكن صلاح الدين الايوبي اكتفى بجيشه ولم يعد في حاجة ماسة إلى جيش الناصر، وذلك بتعاون وتنسيق بينهما، وكان صلاح الدين شافعيًا مثل الناصر، وشهد الأعيان الثقاة بأن صلاح الدين مات وهو على الطاعة للناصر والخلافة العباسية.
كانت المواجهة مع الملك ريتشارد ومعاهدة الرملة آخر أعمال صلاح الدين الايوبي، إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل ريتشارد، مرض بالحمى الصفراوية.
وتوفي صلاح الدين فجر يوم الأربعاء في 4 مارس سنة 1193م، الموافق 27 صفر سنة 589 هـ، فأفجع موته المسلمين عامةً والدمشقيين خاصةً، وبكاه الكثيرون عند تشييعه.
وقيل أن العاقل حتى كان ليخيل له أن الدنيا كلها تصيح صوتاً واحداً من شدة البكاء، وغشي الناس ما شغلهم عن الصلاة عليه، وتأسف الناس عليه حتى الفرنج لما كان من صدق وفائه.
ودُفن بعد صلاة عصر ذلك اليوم في المدرسة العزيزية قرب المسجد الأموي في دمشق، إلى جوار الملك نور الدين زنكي، وعندما فتحت خزانته الشخصية لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات.