بعد مشاهدة فيلم ريتسا شعرت بأن محظوظ من يُصادف الحب فى حياته، حتى لو صادف ذلك الشعور ولو لمرة واحدة فقط. فهُناك أُناسا يبحثون عنه طوال حياتهم، ولم يعثروا على الشخص الذى يُبادلهم ويتبادلون معه هذا الشعور.
ولكن هُناك أيضا من يُقابل الحب، ويُضيع فرصة العثور عليه بكامل إرادته، مُدعيا أن الظروف كانت أقوى منه فى استمرار قصة حُبه، بل يُلقى بذلك على شماعة القدر والظروف.
ولكن يبقى السؤال الأهم هل القدر يمنع استمرار الحُب؟ هل تبدو الظروف هى العائق الوحيد فى استمرار أى قصة حُب وضياع من نُحب من بين أيدينا؟
خطرت على ذهنى كل هذه التساؤلات عند انتهائى من مُشاهدة فيلم ريتسا للكاتب والسيناريست ” مُعتز فتيحة”. فقد افتقدت مؤخرا مُشاهدة هذه النوعية من الأفلام، التى تناقش وتتحدث عن معنى الحُب من خلال مجموعة قصص مُختلفة أو ما تُسمى بالأفلام الرومانسية الإجتماعية.
فقد استحوذت أفلام الأكشن والجريمة على الدراما والسينما. وصدر إلينا مُعظم صُناع السينما مشاهد مُتعبة للعين والعقل، وكأن هذا واقع حياتنا فقط.
اليك مقال عن فيلم احمد نوتردام والرواية
اكتملت جميع عناصر فيلم ريتسا، وأخرجت تُحفة فنية مُبهرة.بداية من القصة والسيناريو، ومرورا بالصورة البديعة، وانتهاءا بالموسيقى التصويرية التى تضافرت مع كل هذه العناصر لإخراج عمل قوى، مُبدع ومُثير للتساؤلات حول الحُب ومصائر البشر بعد الشعور به.
اجتمع العديد من الفنانين فى فيلم ريتسا على رأسهم النجم الكبير ” محمود حميدة ” الذى أبهرنى بأدائه وردود أفعاله. كان أدائه طاغيا على الفيلم بهُدوئه، ونبرة صوته جعلت للشخصية مذاقا مُختلفا، مُقاربا جدا لشخصية القُبطان البحرى الذى يتجول، ويُسافر عبر البحر لبلاد عديدة.
قام الفنان محمود حميدة بأداء شخصية القُبطان ” حداد “، تُعد هذه الشخصية المحور الأساسى لقصة الفيلم، وقد أبدع فى أدائه لهذا الدور من خلال نظراته وصوته، حيث كان هادئا و مُحبا.
استطاع حميدة ببراعة أن ينقل إلى المُتفرج بكل سلاسة شعور الرجل المُحب، الذى أضاع حبيبته ” ريتسا ” من بين يديه بكامل إراداته، ثم يعيش بقية عُمره على ذكرى قصة حُبه معها.
أكثر ما جذبنى للفيلم وجعلنى أشعُر بالإستمتاع طوال مشاهدته، هو الإنتقال السريع بين حكايات أبطال الفيلم دون معرفة الترابط بينهما. ونقل زمنيين مختلفين، وقد ذكرنى هذا بالروايات التى أقرأها، وتدور أحداثها فى زمنين مختلفين.
قبل نهاية فيلم ريتسا بنصف ساعة، تترابط كل شخصيات الفيلم. والرابط الأساسى بينهم هو المكان ليعثروا على نهاية محتومة لقصص حبهم أو ربما ليُحددوا مصائرهم بأنفسهم، ليجدوا نفسهم التائهة منهم.
تعرف ايضاً على كتاب نظرية الفستق من هنا
تبدأ أحداث فيلم ريتسا بقُدوم القُبطان ” حداد ” إلى الإسكندرية ليلتقى بحُب عمره ” ريتسا “، التى قامت بدورها الفنانة التونسية “عائشة بن أحمد ” فى مرحلة الشباب. وقد أُسدل الستار على شخصية ريتسا فى مرحلة شبابها فقط.
تقع ريتسا فى حب حداد، ويُبادلها نفس شعورها تجاهه، ليخلقوا أجمل قصة حُب ليست للحكى فقط، وإنما للكتابة أيضا. ولكن كعادة البشر لا يشعرون بقيمة الشئ إلا بعد فُقدانه.
فقد أضاع حداد ريتسا الفتاة الإيطالية، حبيبة عمره الوحيدة من بين يديه. خاصة بعد أن علم أهلها بقصتها معه، وقرروا وضع كلمة النهاية لهذه القصة بعودتهم جميعا لإيطاليا.
تُعتبر نُقطة مركز إبداع الفيلم الإنتقال بسلاسة وانسيابية عبر زمنين مختلفين، فقد انتابنى وقتها شعورا بأننى داخل شرنقة الكلاسيكيات.
قام الفنان الشاب ” يوسف عثمان ” بأداء دور حداد فى مرحلة الشباب. يمتلك يوسف عثمان موهبة فذة، وأداء تمثيلى رائع. أعتقد أنه سيكون من نجوم الصف الأول فى المرحلة القادمة.
ننتقل إلى قصة أخرى فى فيلم ريتسا. وكانت هذه القصة ضمن بداية الفيلم، فقد كانت بداية شغوفة بالنسبة لى، ظهور من يسرد قصة حُب ريتسا وحداد من خلال شخصية ” مانويلا ” حفيدة ” ريتسا ” التى قامت بدورها أيضا الفنانة ” عائشة بن أحمد “.
فقد قامت عائشة بأداء دور الجدة ريتسا فى مرحلة شبابها فى فترة زمنية ربما تكون فى الخمسينيات، كما قامت بدور الحفيدة فى عصرنا الحالى.
قام الفنان ” أحمد الفيشاوى ” بدور الحكاء أو ما نُسميه الروائى فى الفيلم أو ” مالك منصور “. الروائى المعروف الذى ذهب إلى الإسكندرية لإقامة حفل توقيع روايته الأخيرة ريتسا.
يقع مالك فى غرام مانويلا ، ولكن لا يستطيع حسم قراره بالزواج منها. وتستمر علاقة حبه بها مع ايقاف التنفيذ تحت شعار الحب.
اختلط عليى الأمر فى تلك القصة. فمالك يُحب مانويلا، لكنه لا يستطيع أن يتزوجها نظرا لتركبيته المعقدة وخوفه من خوض تجربة الزواج. فهو كاتب وروائى، وقوده الحرية والخيال، لكى يستمر فى كتاباته، وربما زواجه من مانويلا يُمثل له أحد المُعوقات فى استمرار حُريته.
من الجُمل الحوارية التى أبرزت هذه النقطة بمُنتهى الوضوح مشهد ” مانويلا ” مع ” حداد “، عندما تحدثت معه وروت له قصتها مع ” مالك ” قائلة: “ مالك بيحبنى بس بطريقته “. وقد عبر هذا المشهد عن فكرة التضاد بين الحب والزواج، مُستندا إلى خرافة أن الزواج قد يُفسد الحب.
تعرف على فيلم نهر الحب من هذا المقال
من أكثر المشاهد التى توقفت عندها فى فيلم ريتسا مشهد أول لقاء يجمع مالك منصور بحداد بعد انتهاء حفلة توقيع روايته “ريتسا”. فقد توحدت معه، وابتسمت للحوار الصادق الذى دار بين مالك وحداد.
عندما قال حداد لمالك ” انت خلتنى أعرف حاجات عن نفسى ما كنتش متخيل انى أعرفها “، وذلك عندما قرأ روايته ووجد نفسه بين صفحاتها.
ثم ننتقل سريعا بعد ذلك لقصة “حسام ” الذى قام بدوره الفنان ” أمير المصرى “. وقد أتقن أمير نقل كل المشاعر المُضطربة لزوج يعيش مرحلة من الفتور العاطفى مع زوجته.
وذلك من خلال أفعاله وهدوئه ، وجمله الحوارية التى تبدو قليلة نوعا ما، ولكن بداخلها بُركان على وشك الإنفجار. جسد أمير بوضوح وبساطة مشاعر الفتور العاطفى، ومرحلة التحول بعد الزواج، واضطراب علاقته بزوجته ” مريم ” التى قامت بأدائها الفنانة الشابة ” مى الغيطى “.
لنرى هنا على النقيض قصة مُختلفة عن تيار بقية قصص الفيلم، فقد حسم حسام أمره تجاه مريم وتزوجها. ولم يُضع فرصة الحب من بين يديه، بل لم يتردد فى سرعة اتخاذ القرار.
ولكن لا تظل الدنيا وردية فبعد زواجه من مريم، تسلل شعور الفتور وعدم القُدرة على التواصل معها، فلم يعُد سعيدا معها كما كان من قبل، بل انتابه شعور بالندم على زواجه منها. واستمراره فى هذه الزيجة.
هنا يدُق ” مُعتز فتيحة ” ناقوس الخطر بمُنتهى العبقرية والإبداع الخلاق فى مشهد جمع بين حسام وزوجته مريم، ليكشف لنا عن تيمة أخرى وهى (الاختيار).
هل الانسان مُسير أم مُخير فى اختياراته؟ هل سيشعر بالندم يوما ما على اختياره؟ وهل يُمكنه الرجوع عن قراره فيما اختاره أم سيكون قد فات الآوان؟ وصلتنى كل هذه الأحاسيس من خلال جُملة واحدة لشخصية مريم بالفيلم ” حسام انت هتفضل أحسن اختيار أنا اخترته “.
قالتها بكل هدوء، وبمُنتهى الثبات الإنفعالى، لتضرب بعصاها الأرض، وتُزلزل حسام من داخله. فدائما تبعث الكلمات الهادئة رسائل الندم على ما فعلناه تجاه من نُحب أكثر بكثير من الصوت العالى.
وتتفرع قصة أخرى لحسام، لأنه يخون زوجته مع ” نادين ” التى قامت بدورها الفنانة ” مريم الخشت “. ليُصدم المُتفرج بأنه يُعانى أيضا من عدم قدرته على اتخاذ القرار الحاسم لمصير حياته.
يلجأ حسام إلى نادين كبديل عن مريم، وقد أحبته نادين من قلبها. وذاقت من مرارة كأس الخيانة، لكنها لم تتخيل يوما أن تكون هى ساقية نفس الكأس لغيرها. يتخلل داخل نفس حسام شعور آخر بالندم، عندما يعلم بمرض مريم بسرطان الدم فتنقلب الدُفة لصالح مريم،
ويحنو عليها، ويُجدد معها ذكرياته. بل إنه يُعطيها مشاعره كاملة بدون مُناصفة مع أحد، فيبتعد عن نادين دون حتى أن يخبرها أو يواجهها بقراره، وسبب ابتعاده عنها.
تتوالى الأحداث سريعا فى فيلم ريتسا، وتترابط خيوط الأبطال قُرب نهاية الفيلم بمشهد أظنه من وجهة نظرى هو الثغرة الوحيدة بالفيلم، فلم ُيقنعنى المُخرج أو السيناريست بهذا المشهد،
وهو مشهد اعتداء ” مالك ” على “ياسمين” التى قامت بدورها الفنانة الشابة ” كارولين عزمى “. ياسمين هى الفتاة التى أعجبت وانبهرت بشخصية الروائى الشهير ” مالك منصور “.
وذهبت لحفلة توقيع روايته ريتسا، ثم ظلت تُلاحقه فى كل مكان يذهب إليه، فهى نموذج للفتاة الجريئة التى يُحركها احساسها وقلبها، ووجود عقلها فى وضع مُتجمد فى ردود أفعالها.
يأتى هذا المشهد، وهو مُحاولة اعتداء مالك على ياسمين التى ذهبت إلى بيته وجلست معه ولم تكُن هذه هى المرة الأولى لها، فقد ذهبت لبيته عدة مرات بمحض ارادتها. وفى تلك المرة تحديدا لم يدعوها مالك، و خلال جلستها فى بيته،
تُفاجأ ياسمين بمُحاولة اعتداء مالك عليها، ويرتطم رأسها بُزهرية، فتسقُط مغشيا عليها وتنزف من رأسها، ويقوم مالك بنقلها إلى المستشفى.
تتشابك مصائرجميع أبطال فيلم ريتسا، ليعرف المُشاهد علاقتهم ببعض. حيث ينقل حسام زوجته مريم التى تعرضت لإغمائة مُفاجئة نتيجة مرضها، فيُصادف بمُكالمة هاتفية من مانويلا التى تكشف له أنها حفيدة والده حداد،
وتنقل له خبر نقل والده إلى المستشفى اثر تعرضه لهزة نفسية وأزمة صحية، لنكتشف أن حسام هو ابن حداد وخال مانويلا. وفى نفس المكان تُقابل مانويلا صدفة فى حديقة المستشفى مالك، وتُعرفه بجدها بطل روايته الحقيقى عن قُرب،
وُيفاجأ مالك بهذا الموقف لأنه قابل حداد من قبل. من المُفاجات الُمذهلة فى الفيلم أو المشاهد الغير مُتوقعة بالنسبة لى مشهد مُكالمة ياسمين لصديقتها وطلبها أن تأتى إليها فورا، لتتمكن من مُغادرة المستشفى و أن نادين هى صديقة ياسمين،
بل إنها كانت بجوارها فى نفس المستشفى لسبب آخر.
يجتمع كل من حداد ومانويلا ومالك وحسام ومريم فى مشهد النهاية بالفيلم، وذلك للإحتفال بزواج مالك من مانويلا، وقيام مانويلا باهداء جدها حداد بروازا يحمل صورة قديمة له أيام شبابه مع ريتسا،
مما يُضفى جمالا على المشهد باستعادة ذكريات الماضى وتضامنها مع الحاضر، لرسم سعادة وابتسامة صادقة نابعة من القلب.
نهاية فيلم ريتسا تبدو منطقية وعادلة بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من شدة اعجابى واقتناعى بها، إلا أننى أشفقت على نهاية نادين وياسمين، فكل واحدة منهن خسرت من تُحب، ومن قبل خسرت نفسها وسعادتها.
وشعرن بسعادة لحظية، وجلبن لأنفُسهن مشاعر وجع لا حدود له، قد يُنسى مع مع مرور الأيام، ولكن من المؤكد أنه حفر بداخلهن ذكرى مؤلمة.
فيلم ريتسا هى رسالة إلى من نُحب، قد يُعطينا القدر فرصة الحُب، وعلينا استغلالها قدر المُستطاع، حتى لا نفقد من نُحب من بين أيدينا. ونندم بعد ذلك طوال أيام عُمرنا على ضياع الحب منا، ويُصبح هذا الشعور مرض مُزمن لا يُمكن الشفاء منه.
تمسك بمن تحب، ولا تتردد فى حسم قرارك تجاهه، لا تتركه فى مهب الريح وحده، وتفلت يديك من بين يديه، ثم تندم بعد ذلك.
اليك ايضاً روايات تحولت لأفلام في هذا المقال.