قصر البارون من أهم القصور علي مر التاريخ سمي بالقصر الهندي أو قصر البارون إمبان، والذي يُعرف اختصارًا بـ قصر البارون إنه القصر المصري الأشهر، والأكثر تفردًا وغرابة. وأثر من الآثار المهمة في العاصمة والذي التصقت به قصص وأساطير كثيرة، وكان حديث الناس في فترة من الزمان.
بطراز معماري متفرد وملفت، جمع ما بين الشرق والغرب، وفي قلب الصحراء المصرية أمر البارون والمليونير البلجيكي ادوارد إمبان بتشييده ليضم صالات مزخرفة بإتقان، وغرف لا تغيب عنها الشمس طوال النهار فتشهد كل فراغتها على قصة غروب الشمس كل يوم، وغموض يخبئ الكثير من الأسرار بين جنباته، وعمر تعدى القرن!
هناك روايات مشوقة عنه فترى ما قصة هذا القصر، وما سبب شهرته الواسعة وخاصة في الأعوام الأربعة الأخيرة؟ كل ذلك وأكثر سنتعرف عليه في مقالنا لليوم.
في رحلة طويلة امتدت من أقاصي الشرق لبلد يدعى الهند باتجاه القارة الأفريقية قاصدًا أراضي مصر المحروسة، حملت هذه الرحلة البارون البلجيكي إدوارد إمبان، وذلك في نهايات القرن التاسع عشر في الفترة المتزامنة مع فتح قناة السويس وتحديدًا في العام 1894م.
وصل هذا المليونير حاملًا معه ثروة ضخمة، وثقافة كبيرة، وطموحًا لا ينضب، وبهذه الثروة وذلك الطموح والرؤية الحالمة، عبّر البارون لحاكم مصر عن رغبته في تأسيس مشروع سكني في صحراء القاهرة، وقد كان له ما أراد. فعُدت العدة، وجُلب المهندسون والبناؤون والعمال المهرة، ومعها مواد البناء والإنشاء.
وبدأت رحلة التشييد والتعمير لهذه المنطقة، وفي نفس ذات الوقت، طاح قلب البارون في حب مصر، وهام بها عشقًا، وملكت القاهرة بالذات مفاتيح قلبه، فقرر أن يستقر فيها للأبد.
وبسبب هذا المشروع الذي جره إلى حب لتفاصيل هذه المدينة، عزم الأمر على بناء سكن له في نفس منطقة المشروع. فجاء قصر البارون نتاج هذا كله، ولتأثره بالحضارة الهندية المرتحل لها سابق، والحضارة الأوروبية التي يعود أصله لها، أمر ببناء قصره على الطراز الهندوسي الأوروبي.
لتبدأ رحلة البناء لـ قصر البارون في العام 1906م، وليأخذ من الزمن خمسة أعوام حتى الانتهاء منه وافتتاحه العام 1911م.
الجدير بالذكر أن البارون إدوارد إمبان، هو في الأصل مهندس ومدير ومشرف ومؤسس سلسلة من المشاريع المعمارية في العالم، والتي غذت المستعمرات البلجيكية المتناثرة في بقاع الأرض في وقتها. كما أنه رجل أعمال وثري من أثرياء بلجيكا واقتصادي فذ، ورحال يحب السفر والتنقل والتعرف على ثقافات العالم.
أما والده فهو الملك البلجيكي المعروف باسم ليوبولد الثاني، وأكثر ما اشتهر به في مسيرته الاقتصادية والهندسية، هو السفر والترحال، فمن أمريكا الجنوبية تارة، إلى بلاد الهند وما جاورها تارة أخرى، وصولًا لشمال افريقيا حيث استقر فيها، وكأنه بترحاله هذا كان يبحث عن ذاته بين المدن، فوجدها مختبئة في القاهرة.
حبه للقاهرة ولهذا البلد شهدت عليه وصيته التي خط فيها رغبته في أن يُدفن في أرض مصر حتى لو وافته المنية خارجها. وهو ما حدث فعلًا، حيث سلم روحه في بلجيكا عام 1929م بعد صراع مع مرض السرطان، نُقل جثمانه بعدها إلى القاهرة، ودُفن تحت كنيسة البازيليك والتي تبعد أمتار قليله عن قصره.
ذكان لهذا الرجل الفضل في نهضة المنطقة الصحراوية والتي عُرفت لاحقًا بمصر الجديدة. حيث حصل على مرسوم حكومي يوافق له على بناء الصحراء الشرقية، وقد اشتراها بماله الوفير، وقُدر سعر الفدان الواحد بجنية واحد فقط في ذلك الوقت.
وذلك لافتقار المنطقة للبنية التحتية والخدمات من مواصلات واتصالات ونحوها، وهو ما أدى إلى نفور المستثمرين العقاريين عدا البارون وانخفاض سعر الأراضي.
هناك ضخ المال بسخاء لبناء الفلل والمنازل والمنشآت بالطراز الإسلامي، وشُيدت الحدائق والفنادق، وشُقت الطرق وربطت المواصلات ما بين وسط البلد ومصر الجديدة. وأطلق على هذا المدينة الجديدة اسم هيليوبوليس، والتي تعني مدينة الشمس.
ومن أشهر مباني المنطقة بالإضافة لقصره، هو فندق يحمل نفس اسم المدينة، وقد أصبح لاحقًا جزء من مقر الرئاسة المصرية باسم قصر الاتحاد.
بعدد طوابق اثنين فوق الأرض، أبدع المهندس المعماري والمخطط الحضري الفرنسي ألكسندر اوغست لويس مارسيل هذه التحفة المعمارية، وهو مهندس له العديد من المشاريع المعمارية ذائعة الصيت أشهرها وأهمها قصر البارون في القاهرة، وقصر مهراجا في الهند، وغيرها.
جذب هذا الأخير انتباه البارون، وذلك في أحد أيام العام 1905م، حيث تمت دعوة البارون لحضور معرض هندسي في العاصمة باريس، تعرف من خلاله على المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل، وأُعجب البارون بتوجهه المعماري القائم على المزج بين طراز عصر النهضة في أوروبا، والطراز الديني الهندوسي المتمثل في المعابد.
وفي كتب التاريخ المصري ذكر أن زخارف القصر داخلًا وخارجًا، أوكلت مهمة إنجازها والإشراف عليها الفنان جورج لويس كلود.
على مساحة عامة تقدر ب 12.5 ألف متر مربع، شاملة بذلك مساحة الأرض والمساحة البنائية، حاك المعماري نسيج بنائي خلد اسمه واسم مالكه للأبد، حيث الطراز الهندوسي البوذي الهندي للمعابد القديمة في شرق آسيا، وهي التي اُعتمدت كتصميم خارجي للواجهات، وبطابع عمارة عصر النهضة الأوربية كتصميم داخلي للفراغات.
ليجمع قصر البارون بين الشرق والغرب على أرض مصرية.
المساقط الأفقية للقصر تتكون من طابقين فوق الأرض، وطابق تحت الأرض. الدور الأرضي وهو الأول، ويوجد به صالة رئيسية وبها بوابة المدخل، يمينها تقع صالة للضيوف بها مدفئة منقوشة نقش أوروبي، ثم يسار الصالة الرئيسية توجد صالة الطعام وغرفة للعب البلياردو.
وفي طريق الصعود للدور التالي، نمر بسلم ملبس بالرخام، ودرابزين ذو زخارف مطعمة بالتماثيل تحمل الطابع الهندي. وفي هذا الدور نجد صالة أيضًا، وأربع غرف نوم لكلٍ منها حمامها الخاص وشرفتها الخاصة.
أما بالانتقال أعلى حيث السطح، ننتقل بواسطة سلم مصنوع من الخشب نوع الأرو الفاخر، والذي يعد واحد من أجود أنواع الخشب وأغلاها ثمنًا، فلا يمسه سوس ولا يؤثر عليه تعاقب السنون.
هنا حيث سطح القصر، نجد ما يسمى البانوراما، وهو الذي كان يستخدمه البارون كمنتزه لحفلاته الخاصة حينًا، ومجلس يختلي به على مقعده يوميًا يحتسي معه الشاي ويناظر الشمس وهي تودعه الوداع الأخير، في منظر غروبي ساحر.
أما طابق البدروم، تحت الأرض، فقد خُصص للمطابخ وغرف الخدم، وضم الخدمات من غسيل وانتظار سيارات ونحوها، ويربط جزء منه نفق سري يصل ما بينه وبين كنيسة البازيليك الموجودة آخر شارع العروبة والتي دُفن فيها.
أما البرج الذي يقع يسار القصر وهو ما ميز واجهته، فهو ذو قاعدة متحركة، يتحرك ببطء كل ساعة ليكمل دورة كاملة، حتى إذا ما جلست فيه رأيت المناظر كلها 360 درجة كل ستين دقيقة حيث الحديقة الممتدة حول المبنى والتي ترفل بالزهور، وهذا البرج يتكون من أربع طوابق مربوطة بسلم مزين بالخشب والرخام والتماثيل.
الجدير بالذكر أن القصر رُصت أرضياته بخشب الباركيه، وبعضها بالمرمم، وبعضها بالرخام الذي جُلب خصيصًا من إيطاليا ويعرف باسم رخام الكرارة وهو على اسم المدينة الإيطالية التي جُلب منها.
أما حمامتها فقد بُلطت بأشكال فسيفسائية يتدخل فيها اللون الأزرق والأحمر بطريقة مذهلة.
أما الشرفات فقد حُملت أطرافها بتماثيل على شكل الفيلة الهندية. وجدران سطح القصر غُطيت بالرسوم النباتية والحيوانية والكائنات الأسطورية.
أما نوافذه المصنوعة على النمط العربي، فأجزاء الزجاج فيها قد صُنعت من الزجاج البلوري بجودة عالية، حتى كأنك ترى العالم من الخارج بوضوح تام بلا أية شعور بالعزل.
وكل الكريستالات والنجف جُلبت من تشيكوسلوفاكيا. وكل التماثيل المزينة للقصر، تم صبها وتنفيذها في فرنسا، ثم نُقلت إلى مصر ورُكبت في الموقع. كما ويحتوي القصر على مصعد كهربائي، وهو ما عده الناس في وقتها ثورة في عالم المنشآت السكنية.
وواجهات المبنى الخارجية والتصميم الداخلي زُين بالكثير من التماثيل الدقيقة المصنوع بعضها من العاج. كما واحتوى القصر سابقًا على أنتيكات وتحف ثمينة كثيرة، منها ما جلبها معه البارون من رحلاته الكثيرة، ومنعا ما أًهديت له، ومنها ما صُنعت له خصيصًا، وأغلبها قد تم بيعها منفصلة في مزادات.
أما من الناحية الإنشائية، فيعد القصر من أوائل المباني في مصر التي تم استخدام الخرسانة المسلحة فيه لبناء الهيكل الانشائي بدلًا من الخشب والحيطان الحاملة، وهو ما كان يعد في وقتها اختراع حديث في عالم البناء والتشييد، وتكلفته باهظة جدًا.
قد يكون قصر البارون ذو سمعة سيئة بين الأوساط العامة، والتصقت به قصص كثيرة تدور كلها في فلك الجن والأشباح والعفاريت، خاصة وأن الناس وجدوا فيه ضالتهم المنشودة التي تغذي روح التشويق في أنفسهم. فقصر كبير بحديقة غناء وطراز دخيل على المنطقة، ومهجور من البشر.
تعاقبت علي قصر البارون الأجيال الذين رحلوا عن عالمنا وبالتالي لم يبقى سوى أشباحهم تطوف بالمكان، هو خير مثال لقصص القصور المرعبة والتي ارتبطت بنا منذ الطفولة، وأجاد الناس تناقلها.
فمن بين القصص والأساطير المتداولة، أن بالقصر غرفة وردية تقع في أحد سراديبه المخفية، جدرانها ملبسة بالمرايا، حتى جاء ذلك اليوم الذي مات فيه البارون فتلطخت مراياته بالدم وكأنها لعنة. كما ويزعم البعض أن هناك غرفة تدعى غرفة البارون الخاصة، وهي التي لم يسمح لأحد بالدخول لها، لأنه كان يمارس فيها طقوس مرعبة.
أما وفي العام 1982م، وحسب زعم البعض، فقد شاهدوا النيران تشتعل فجأة ويخرج الدخان من برج قصر البارون، وبعدها فجأة أيضًا انطفأت النيران واختفى الدخان كأن شيئًا لم يكن.
أما البعض الآخر فقد تداول قصص كثيرة عن سماع أصوات شجار تصدر من داخل قصر البارون بين الفترة والأخرى، يقال أنها روح البارون وشقيقته يتشاجران ليلًا.
بتكلفة بلغت 175 مليون جنية، كانت مشاركة بلجيكا فيها بقرابة 15 مليون جنية تكريمًا منهم للبارون البلجيكي الأصل، تم إعادة ترميم القصر مرة أخرى. وبذلك يُعلن القصر رسميًا كمزار ويفتح أبوابه أمام الزائرين مخلدًا بذلك قصة حب جمعت البارون بالقاهرة.
كما ويعد قصر البارون كمعرض تزدحم فيه الصور والوثائق الأرشيفية والخرائط وغيرها والتي تحكي عن فصول من ذاك الزمان وتُحضرها لنا الآن لنعايشها.
وكما ذكرنا سابقًا فالقصر وبسبب تناقل ملكيته من شخص لآخر عبر المزادات، قد أفقده جزء كبير من أثاثه وأنتيكاته، فلا يوجد حاليًا إلا الجدران المنقوشة والتماثيل المرصوصة، والأرضيات المبلطة، والتي خضعت كلها لترميم تدقيق ولكل أجزائها.
حيث تم رصد ورفع مساحي كامل للقصر، ثم أصدر تقرير عن عدد الشروخ وحالة المبنى العامة، ثم جاءت مرحلة التوثيق، يليها أعداد الملفات بالمساقط والواجهات والقطاعات المعمارية وتحديد تكلفة الترميم، ثم البدء في عملية الترميم فعليًا على أرض الواقع.
مع العودة للرسومات والمخططات المعمارية الأصلية والاستعانة بها، حتى انتهت منه نهائيًا، وأعلن عن افتتاحه رسميًا للزوار عام 2020م، ليظهر أخيرًا بحلته الجديدة ولون واجهاته الأحمر الذي لاقى انتقاد من البعض، واعتبار لونه الجديد ليس هو اللون الأصلي للمبنى.
ومن الأشياء التي استحدثت في غرف قصر البارون حاليًا، هي شاشات عرض ولوحات إرشادية بها معلومات مفصلة عن المكان وفراغاته.
تعاقبت الأيام ومعها السنوات تباعًا حتى أعتاب الألفية، حيث انتقلت ملكية قصر البارون من وريث لآخر، وبُيع في مزاد علني عام 1954م، فشاخ قصر البارون وكبر وتهالك بعضه بسبب العمر من جانب، وبسبب الإهمال من جانب آخر.
حتى جاء العام 2005م وينتقل معها المبنى لملكية الدولة، بعد أن قامت الحكومة المصرية بشرائه من ملاكه المشترين السابقين من أصول سورية وسعودية، وذلك بإعطائهم أرض تساوي سعر قصر البارون والذي قُدر بقرابة 125 مليون جنية مصري، أي ما يعادل الـ 21 مليون دولار.
لأهميته المعمارية ورمزيته التاريخية، واعتباره نقطة جذب سياحية مهمة، شرعت وزارة الآثار المصرية بالأعمال الترميمية عام 2017م،
حاليًا يتمركز قصر البارون في قلب حي مصر الجديدة، القاهرة، في شارع العروبة طريق صلاح سالم المؤدي لمطار القاهرة الدولي. وتعود ملكيته للدولة وتحديدًا للمجلس الأعلى للآثار.
وقد تحول رسميًا من سكن إلى مزار سياحي يستقبل الزوار والهواة والباحثين والمعماريين والمولعين بالتاريخ. كما ويعد مكان لعقد الحفلات الرسمية وموقع جيد للتصوير منذ القرن الماضي، فظهر في أفلام عدة من ضمنها فيلم حبي الوحيد عام 1960م، وفيلم الهارب عام 1974م، وفيلم آسف على الازعاج عام 2008م، وغيرها.