كم يقرأ الفرد العادي من كتب فى السنة الواحدة؟ البعض يقرأ مائة و البعض يقرأ خمسين و البعض ثلاثين و ربما أربعين وآخرون يقرأون كتاب واحد كل سنة… فى جميع الأحوال أي عدد من القراءات يستحق التقدير.
و لكن كم من هذه الكتب يؤثر فينا و يجعلنا نعيد التفكير فى معتقداتنا و عاداتنا و بيئتنا و كل شىء حولنا فى العموم؟ أو كم منها يُسعدنا و يترك داخلنا أثر دائم نحمله معنا اينما كُنا؟ و كم منها يصبح تجربة تساعدنا في إتخاذ قرارات مهمة أو اكتساب مهارات و تعلم طرق جديدة تساعدنا فى عيش حياتنا و ممارسة انسانيتنا؟
بالطبع تختلف قراءتنا و فهمنا للكتب كما تختلف قراءتنا و فهمنا للأمور بشكل عام و بالطبع القراءة و الكتب هما شيئان ذاتيان و نسبيان جداً و لكن التجربة الإنسانية حول العالم متماثلة بشكل كبير. فقد تختلف التجارب التى تؤدى بنا الى الشعور بالفرح أو الحزن و لكن فى النهاية جميعنا يألف تلك المشاعر. الأمر مماثل مع الكتب. قد يختلف فهمنا للحبكة أو إنطباعنا العام عن الكتاب و لكن فى النهاية رحلتنا معه – و على إختلافها – تؤثر فينا بشكل أو بآخر.
ولكن السؤال هنا هو، ما هى المميزات التى تجعل كتاب ما مؤثراً أكثر من غيره من الكتب؟
بالطبع لا توجد إجابة واحدة لهذا السؤال، والقائمة التى سأعرضها فى هذا المقال هي رأيي الشخصى و رحلتى الخاصة مع كل من هذه القصص، لكن ربما – بقراءتك لهذا المقال – يجمع بيننا واحد من هذه الكتب، و تحظى بتجربتك الخاصة مع واحد منها، أو جميعها.
“كنت عاقلًا، و مثقفًا و طالبًا فى الدراسات العليا ، و كل شيء يبدو على ما يرام ، و فى الداخل صحراء فيها كائن قاعد على ركبتيه فى الفراغ و ‘يأكل قلبه‘ كما يقول الشاعر الإنجليزي ، فسألته ‘هل هو مر؟‘.. ‘مُر جداً يا صديق‘”
فى الحقيقة ، أشعر بالخوف و أنا أكتب عن كتاب الضوء الأزرق ، فظللت مدة ليست بقصيرة بعدما انتهيت منه غير قادرة على تقييمه بنجوم على منصات الكتب و القراءة و لا حتى بكلمات لأصدقائي ممن يحبون القراءة.
أكثر تجربة معقدة و بسيطة و قاسية و رقيقة و سحرية و غريبة ومألوفة مررت بها فى حياتى كقارئة. كيف للإنسان أن يشرح ماهية شعور أن تجلس فوق سحابة تسبح فى المحيط فى الصباح، و تنام فوق جبل وتستطيع أن ترى القمر من فوقه فى المساء؟ ليس أنا. وليس بوسعي ايضًا أن أحدد ما إذا كان الكتاب سيرة ذاتية أم رواية، لأنه قريب إلى الإثنين بدرجة كبيرة.
الضوء الأزرق.. لما الإسم و ما أهميته لحسين البرغوثي؟
بدا لى أثناء قراءة الكتاب أن الأزرق كلون، كان يطارد حسين كثيراً، فى ذهنه، و فى واقعه. فكان يعنى له الكثير من الاشياء، احيانًا تكون عابرة و محض خيال وأحيانًا تكون أشياء حقيقية يراها حوله، و لكن اللون الأزرق فى العموم يعطى فى نفس الكثيرين انطباعًا سحريًا و له هالة خاصة نربطها بالهدوء و السلام و الماء و أي شيء يبدو فى خارجه سهل و لكن فى داخله معقداً جدًا، كشخصية حسين و كتابه.
من الصعب عدم حرق أحداث الكتاب لذلك سأتكلم عن الفكرة العامة بحرص حتى لا اضيع على احد التجربة. تدور الأحداث حول حسين البرغوثي، بشخصه الحقيقى. فمن هو حسين جميل البرغوثي؟ هو شاعر، كاتب، كاتب مقالات، ناقد، كاتب أغاني، وكاتب مسرحيات فلسطيني. ولد فى شمال مدينة رام الله و حصل على الكثير من الشهادات و لكن اعتقد أهمها بالنسبة للكتاب هى الفترة التى قضاها فى سياتل ، بالولايات المتحدة الأمريكية للدراسة وهى الفترة التى يركز عليها حسين كثيراً فى جزء كبير من الكتاب فيحكي بالتفصيل تجربته كمغترب و كل ما و مَن أثر فيه أثناء إقامته هناك.
و بالطبع حظت القضية الفلسطينية بجزء من الكتاب، كون حسين فلسطينى و لكن ليس بالشكل التقليدى و لكن بالشكل العاطفى الإنساني المحكي بلسان مواطن فلسطيني بقلم سحرى مرورًا بمرحلة الطفولة ثم الشباب. و لكن مازال السؤال هنا يراود القارىء، ما هو الشيء المميز في حسين وضوءه الأزرق؟
أولًا، لا يسعك سوى أن تشعر أن حسين يخاطبك أنت فقط. أنت وحدك. و أنه كتب الضوء الأزرق من أجل عينيك أنت وليس أي شخص آخر. على الرغم من أن رحلتى مع حسين كانت شخصية و خاصة جدًا، و لكن الأثر الذي حملته معي يمكن أن يحمله أى شخص آخر متأثرًا به.
يتركك الكاتب بوعى صادم عن نفسك و عنه أيضًا. فقد أدى وعيه الزائد بكل شىء جيد و سىء فى نفسه و كل فكرة شاذة و غريبة و غير مقبولة و لا يمكن أن تقال إلا في داخل الإنسان، يجعلك أنت أيضًا تعى كل هذه الاشياء فى نفسك بشكل مُرهق فى بعض الأحيان. مما جعل الكتاب سيرة ذاتية كما ينبغى أن تكون، دون تغليف للحقيقة بشريط الخجل أو العرف أو التقاليد.. مما ايضًا يجعلك كقارئ أحيانًا تؤمن أنها رواية و ليس سيرة ذاتية لما يتمتع به الكاتب من صراحة و جنون فى بعض الأحيان.
و حديثًا عن الجنون –فهو النقطة الثانية– كان تركيز حسين على ذلك الموضوع، صادم و مؤثر بشكل كبير، فهو موضوع شائك بعض الشىء. كيف للإنسان أن يصم نفسه بالجنون؟ و لكن فى رأيي جنون حسين هو ما صنع الضوء الأزرق. و طرحه للموضوع هو ما يجعلك كقارىء –و جعلنى بشكل خاص– تشعر بقربك لحسين كإنسان تلبسه هاجس الجنون من كثرة اغترابه و ابتعاده عن واقعه و عن كل من حوله من عائلة و أصدقاء، فكان ذلك بالنسبة لى كرسالة فى زجاجة و جدتها على شاطىء مدينتى تقول “أنا مثلك. نحن متشابهان“.
أيضًا فترة طفولة البرغوثى تجعلك تعيش فترة طفولتك على مدار قراءتك للكتاب بمساوئها قبل لحظاتها الحلوة. لتعيد التفكير فى كثير من النعوت و الصفات التى لطالما ربطتها بنفسك كطفل/ة و هل كانت بالفعل حقيقية أم هى همسات آخرين فى أذنك تسللت إلى ذاتك ثم أصبحت حقيقة؟
على الرغم من خصوصية الكتاب كتجربة حسين البرغوثى كإنسان أولاً و فلسطينيًا ثانيًا ، إلا أنه أعاد كتابة تجربتى أنا ، فى ذهنى و فى قلبى ، فالضوء الأزرق اخترق قلبى و ظل فى داخله ينير جزء خاصًا به و لم يَخمد أبدًا منذ أن عثرت عليه و حتى انتهيت منه ، أو بمعنى أدق ، انتهى هو منى ، لأنى لا أعتقد أن احدًا ممن قرأ هذا الكتاب يستطيع أن ينتهى منه.
لكَم دقيقة يستمر شعور الجوع فى الطبيعى لدينا؟ عندما نعود بعد يومٍ طويلٍ، أول شىء نفكر فيه غالباً هو أكل وجبة شهية والإسترخاء. لا يقلق الكثير منا من عدم وجود طعام في طبقه، أليس كذلك؟ و بالتالى لا يشغل بالنا كثيرًا وجود آخرين من بني جنسنا يعيشون في جوع قد يستمر إلى أيام و أحيانًا أسابيع.
بالطبع حذرتم موضوع كتابنا، و لكنه ليس بهذه البساطة.
أخترت رواية الجوع بشكل عشوائى جداً دون أن أدرى ماذا ستفعل برأسي و أعصابي أثناء و بعد انتهائي منها. تلخيصًا للفكرة العامة، تدور أحداث الرواية حول رجل مُشرد ، غير مُسمى ، مُفكر ولديه موهبة الكتاب ، هائم على وجهه في شوارع اوسلو ( كريستيانيا سابقًا ) عاصمة النرويج ، باحثًا عن مأوى و لقمة تبقيه حيًا للأربع وعشرين ساعة القادمة. يقابل الكثير من الشخصيات بعضها يؤثر فى مصيره بشكل كبير و البعض الآخر يلمسه بشكل مؤقت.
ستغير تلك الرواية مفهومك عن التشرد بشكل عام و عن كل فرد من المشردين بشكل خاص ، أغلبنا ينظر إلى المشردين بعين التعاطف و الأسف و البعض الآخر بعين الإستنكار و فى الحالتين نفتقر كثيرًا إلى المعرفة الحقيقة بحياة هؤلاء الناس. الجوع رواية عشت فيها تلك الحقيقة بشكل كامل و أفزعتني لما قدمته من تفاصيل مؤلمة عن ماهية الجوع و تأثيره على ذهن و بدن الإنسان. أيضًا دائرة التشرد التى لا تنفتح أبدًا بسبب عدم ثقة المجتمع فى أي فرد لا يوافق معاييره و لا يرتدى الملابس التى يعتبرها المجتمع لائقة أو مناسبة دون فهم شخص ذلك الانسان و رحلته.
الأهم من ذلك هو الدائرة المغلقة التى تحدثت عنها منذ قليل.
دائمًا ما نُفكر “لماذا لا يعمل المتشردين و يخلصوا أنفسهم من ذلك العذاب؟” أو لماذا يلجئون إلى التسول أحيانًا و غيره من الوسائل للحصول على أساسيات العيش؟ و ننظر لهم كالمقصرين فى حق أنفسهم ومجتمعهم ، و بالطبع أنا كُنت من هؤلاء الناس فى مرحلة ما و لكن كنوت هامسون غير وجهة نظرى بما كان يجب أن اؤمن به من قبل و هو: أن هدف المتشرد الأول هو مكان مؤقت للنوم و بعض الطعام ثم ربما بعض نقود لشراء وجبة أخرى تسانده ليوم آخر. و ينتهى الأمر بهضم الوجبة و زوال المأوى و نفاذ النقود فيعود كل شىء إلى ما كان عليه دون تحقيق أي خطوة إلى الأمام.
لماذا لا يحصل المشردين على عمل؟
ماذا نفعل نحن قبل التقديم على عمل؟ فى الغالب نستعد بإرتداء أفضل ما لدينا من ثياب و تحضير أفضل ما لدينا من كلمات لحصاد القدر الكافي من الإحترام و التقدير ، و لكن هل فى إمكانية المشرد تحقيق ذلك؟
كما قُلت قبل قليل أن أغلب المجتمعات لا تضع ثقتها فى المشردين بكل أشكالهم و أنواعهم و تلجأ لإتهامهم – دون دليل – بالإحتيال و نصمهم بأبشع الصفات لمجرد أنهم لم يحظوا بنفس الظروف التى حظينا بها نحن فبالتالى يعود المشرد من حيث جاء: إلى الشارع ، و يظل فيه بسبب عدم تقبل المجتمع له و حرمانه من الدعم.
و هكذا يضع هامسون القارىء فى مأزق و تأخذ الرواية منحًا آخر تمامًا. فحل مشكلة التشرد ليس فرديًا و ليس فقط فى يد المتشرد ، ( و هنا لا يتحدث هامسون عن الذين يتخذون التشرد كمهنة ) بل فى يد كل فرد منا.
“لا بد أن حلمه بدا قريباً جداً لدرجة أنه لا يمكنه أن يفشل فى إدراكه. لم يكن يعلم أن حلمه كان بالفعل خلفه..”
الوهم أو السراب هو أحد أهم مواضيع رواية غاتسبي العظيم. من الحُلم الأمريكي إلى الضوء الأخضر مرورًا بشخصية “دايزي” فى حياة غاتسبي، و غاتسبي بذاته فى حياة كل من حوله.
لا يمكن القول أنها من كلاسيكيات القرن العشرين فقط ، لأنها لاتزال تُباع حتى يومنا هذا. و فى عام ٢٠١٣ فقط ، بعدما صدر نسخة فيلم جديدة مقتبسة عن رواية فيتزجيرالد ( بطولة ليوناردو ديكابريو و توبي ماغواير و كارى موليغان )، بيعت حوالى أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة من الكتاب حول العالم. و لكن ذلك ليس سبب إختياري لإضافة هذه الرواية للقائمة.
تبدأ الرواية في فصل الصيف، عندما ينتقل نيك كاراواي ، الراوي ، من مينيسوتا ليعمل فى بيع السندات في مدينة نيويورك. يستقر فى ( ويست ايغ West Egg ) – و هى منطقة خيالية – منطقة تعج بالأغنياء ولكن مُحدثي النعمة و الذين جمعوا ثرواتهم فى وقت قصير و قريب و لا يتمتعون بأي علاقات فى الأوساط المُحترمة و الأنيقة. جار نيك هو رجل غامض يُدعى غاتسبي و لا أحد يعلم الكثير عنه أو حتى هويته سوى أنه يقيم حفلات ضخمة مليئة بكل مظاهر البذخ و الترف. ثم نتابع سير الأحداث و نتعرف بشكل أكبر على غاتسبي و غيره من الشخصيات و لكن على القارىء أن يحذر من أنه يرى كل شىء من وجهة نظر الشخصية لراوينا نيك وأنها ليست جميعًا حقائق مُسلم بها.
يغلب على الكتاب طابع رومانسي بعض الشىء – و بشكل شخصى أنظر إلى الكتاب نظرة رومانسية أكثر من أي شىءٍ آخر – ليس لوجود عنصر رومانسى بالقصة و لكن فيتزجيرالد قام بتغليف أغلب أفكار قصته بالطابع الرومانسى فنلاحظ وجود جانب رقيق لكل شىء على الرغم من قساوته.
و حديثاً عن الرومانسية يغير فيتزجيرالد نظرة الفرد تجاه الحُلم الأمريكي و الذى بدوره – أيضًا – يأخذ فى ذهننا شكلًا رومانسيًا بحتًا، فالجميع يتصور أنه فور انتقاله إلى أمريكا أو حين يغير موقعه من ولاية تيكساس مثلًا إلى نيويورك ستتغير حياته جذريًا و بشكل فورى و يحصل على الثروة التي حصل عليها غاتسبي نفسه . ولا يعبأ أحد بوحشية الإيمان بالحُلم الأمريكي و الهالة الخداعة التى تحيط به.
بعد ذلك يناقش عنصر الوهم أو السراب الذى تحدثت عنه قبلًا – و يغلب عليه أيضًا طابعًا رومانسيًا ، الميل إلى الأشياء التى يصعب على الفرد إمتلاكها – و هو فكرة مهيمنة على القصة بشكل عام و هُنا أريد أن أنتقل من غاتسبي إلى قارئي ، فيبدو غاتسبي بعيدًا جدًا أثناء حكينا للقصة ، و لكنه فى الواقع الشخصية الأقرب إلى مُحبى الكتاب ، و فى رأيي ، أقرب حتى من راوينا ، نيك.
فكما أصبح الضوء الأخضر رمز للوهم فى حياة غاتسبي فكل واحد منا لديه ضوء أخضر فى حياته. و إذا أختلف ضوء القارىء عن ضوء غاتسبي فهذا لا يمنع تشابههما فى المضمون. شىء ما نسعى للوصول إليه بشكل هوسي دون الإستناد لأي حقيقة ، فقط معتمدين على دافعٍ شخصىٍ أو أمل خاص. و هنا يغير فيتزجيرالد نظرتنا إلى تلك الفقاعة. فقاعة الأمل الزائف أو الوهم أو السراب كما نسميه.
و لكنه لا يعنى فقط الأمل الزائف و لكن أيضًا المبالغة فى الأمل. لننتقل إلى نقطةٍ أخرى و هى الإيمان الزائد المولد للكفر. كيف للإنسان أن يؤمن كثيرًا بفكرة لتؤدي إلى كفره بباقى الأفكار. و إذا ثبتت صحة زيفها تُولد فقد إيمان فى كل أمل ربما كان يمكن أن يولد.
و من الأمل إلى الواقع، تواجه القارىء فكرة أخرى وهى إرضاء وتحقيق الذات. هل حقق غاتسبي ذاته؟ و هل أدرك ضوءه الأخضر؟
بل السؤال الأدق هو بماذا يضحي المرء حتى يدرك ضوءه الأخضر؟ فقاعة أخرى فارغة تطفو فوق رأس غاتسبي طوال الوقت و يفجرها فيتزجيرالد فى وجه القارئ وهى: عدم إمكانية تكرار الخسارة اذا واجه الإنسان الكثير من الخسارات فى حياته ( و يقودنا ذلك بالتأكيد إلى فكرة الأمل الزائف فيحدث بذلك ربط للأفكار المطروحة ) فيستنتج القارىء فكرة عكس تلك الفكرة تمامًا و هى: حتمية الخسارة مادام الإنسان على قيد الحياة. الشبح الذى حاول غاتسبي الهرب منه بمطاردته للضوء الأخضر.
حاولت فى هذا المقال اختيار أفضل ما لدى من ترشيحات و التى أؤمن أن سيكون لها تأثير إيجابي على كل من سيختار ايًا منها ليبدأ رحلة جديدة معه.