لطالما ارتبطت فكرة البطل الخارق بالخيال الجامح ؛ البطل الذي ينقذ الموقف، ويظهر في الوقت المناسب. الرجل الذي يُمسك بطفل صغير قبل ثوانٍ من ارتطامه بالأرض، ويسبح داخل النيران فقط من أجل كلب صغير مُحتجز في مكان ما. سوبرمان الذي يتصدى للشر ليسمح لمدينته بأن تنام بسلام.
هذه الفكرة النابعة من الرغبة في الخلود، والرغبة في تحقيق الكمال الإنساني، لأننا جميعًا نعلم أنه على الرغم من كل ما حققناه -وسنُحِققه- كبشر، فإننا لا نزال معيبين وغير كاملين. لا زلنا في أغلب الأحيان نأتي متأخرين، ونعجز عن إنقاذ أنفسنا وأحبائنا من فواجع كثيرة. لا زلنا نتحدث في الوقت الخطأ ونصمُت في الوقت الغير مُناسب. لا زلنا نرى الظلم بأعيننا ونمضي قدمًا غير عابئين طالما لم يمسنا نحن بشكلٍ شخصي.
لذلك مازلنا نتمسك باستمامة بفكرة البطل الخارق، ونعيش في ذلك الحُلم المثالي والكامل، حيث لا توجد مشكلة دون أن يوجد لها حل ولا يوجد ظلم دون أن يوجد بطل ليتصدى له.
وعلى الرغم من اجتياح مفهوم وشخصية البطل الخارق لكل أنواع الفن الغربي -من الأدب للسينما والمسرح وغيرها- إلا أن السينما العربية -المعاصرة بالأخص – باتت تفتقر لذلك النوع من الشخصيات. فربما مُنذ ستينات القرن الماضي، لم تشهد السينما المصرية أو العربية بزوغ صورة بطل خارق جديد إلا مؤخرًا.
فمثلًا تعتبر رواية 1919 للكاتب أحمد مُراد الصادرة عام 2017 والفيلم المُقتبس عنها “كيرة والجن” 2022، من أفضل الأعمال وأولها، مُنذ زمن، التي ترسم صورة لبطل خارق جديد. ليس جديد فقط لأننا افتقدنا وجوده ولكن لأنه أيضًا ليس البطل الخارق الاعتيادي أو المألوف، لا في طبيعته ولا طريقة تقديمه ولا حتى في الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث قصته.
يُقال أن بداية مفهوم البطل الخارق بدأت مع شخصية “ذا فانتوم” للكاتب ورسام الكاريكاتير لي فالك عنده ظهوره في جريدة فالك في الجزء الخاص بالكرتون الهزلي عام 1937. وعلى الرغم أن البعض يعتبر أن سوبرمان هو البداية الفعلية لشخصية البطل الخارق المتكاملة، إلا أن ذا فانتوم تعتبر أول شخصية ترتدي زي خاص بالأبطال الخارقين وتحمل بذرة البداية لهذا النوع من الشخصيات.
ولكن يمكن أن تعود فكرة البطل الخارق لآلاف السنين، فلقد تشكلت وتغيرت على مدار قرون عديدة مُنذ بدايتها في الأساطير اليونانية -شخصيات مثل المحارب أخيل/achilles- حتى يومنا هذا.
بالاضافة إلى أن شخصية ذا فانتوم لم تكن أول شخصية بطل خارق تظهر في جريدة، بل سبقتها شخصية “هوغو هرقل” أو Hugo Hercules والتي ظهرت عام 1902 كرسم كرتوني هزلي في جريدة “شيكاغو تريبيون” للكاتب فيلهلم هاينريش ديتليف كورنر.
ولكن فكرة البطل الخارق لم تقف عند هذا الحد حتى بعد ظهور شخصيات مثل باتمان وسوبرمان. في النهاية شخصية البطل الخارق تحمل داخلها الكثير من الإنسانية بل أن مقومات البطل الخارج تكون أحيانًا دخيلة على شخصيته وحياته العادية مثل شخصية سبايدرمان مثلًا.
الآن، ليس من الضروري أن يُوضع البطل الخارق في قالب مُعين، بل نجد نوع جديد منه تحرر من قيود البطولة التقليدية والمثالية، ويُمكن اعتبار هذا النوع أكثر قُربًا واتصالًا بجمهوره.
والأقرب إلى هذا النوع هي شخصيات مثل شيرلوك هولمز. وعلى الرغم من أن هولمز سبق كُل الأبطال الخارقين في ظهوره إلا أنه يحمل من البطل الخارق الكثير من الصفات وأساسيات التكوين ولكن ما يميزه هو احتفاظه بطبيعته الإنسانية الممزوجة بقوته الخارقة.
وهذا النوع من البطل الخارق هو الأقرب لما يقدمه أحمد مُراد في رواية 1919 والفيلم المُقتبس عنها “كيرة والجن”. الشخص الذي لا يستطيع قراءة الأفكار ولا يستطيع الطيران ولكن تُنمي الظروف المحيطة به مقومات البطل الخارق داخله وتطلق له العنان ليمُارس البطولة التي لطالما عاشت تحت جلده.
الذي لا يعرفه الجميع عن أبطال رواية 1919 وفيلم كيرة والجن هو أنها شخصيات حقيقية ولكن لم يذكر التاريخ عنها إلا القليل مما أتاح للكاتب مساحة للإبداع والخيال وخلق حالة فريدة من نوعها بذرتها واقعية وجذورها خيالية إلى حدٍ ما.
وقد تبدو تلك الشخصيات تقليدية في ظاهرها بالنسبة للجيل المعاصر -فلقد قدمت السينما المصرية قديمًا نوعية تشبه هذه القصص- ولكن على العكس فهي تُقدم واقع جديد تمامًا غير الواقع الذي لطالما ارتسم في عقولنا عن المقاومة وثورة 19 التي قلما تناولها التاريخ والسينما بشكلٍ مُرضي، مما جعل تناول الشخصيات والحقبة مهمة مُعقدة من حيث البحث والتنفيذ وليس ذلك فقط، ولكن أيضًا من حيث تقديمها للجمهور وتقبله لها.
بل أن المزج بين الواقع والخيال الذي عمل عليه أحمد مُراد خلق أرض خصبة لشخصية البطل الخارق وتمثيلها من خلال أبطاله أحمد كيرة وعبد القادر الجِن.
كان عبد الحي كيرة -بطل الرواية- طالب في كلية الطب وأخفى نضاله السياسي أثناء قيام ثورة 1919 عن كُل من حوله من زملاء وأساتذة حتى أن الكثيرين ظنوا أنها مُساند وداعم للاحتلال الإنجليزي.
ولكن هذه لم تكن حقيقة أحمد كيرة، فلقد كان يتمرد بأسلوبه الخاص ويقاوم الاحتلال من خلف الستار حتى لا تلتف الأنظار إليه وفي النهاية انكشف أمره وبدأت مطاردة قوات الاحتلال له.
هذا الجانب بالذات من حياة أحمد كيرة يُرسخ حالة البطل الخارق المتمثلة في شخصه، فكما كان سوبرمان يُخفي حقيقته حمايًة لأهله وأصدقائه وخوفًا من اكتشاف أعدائه لهويته الحقيقية ولجأ إلى خلق شخصية سوبرمان الموازية ليختبيء خلفها، اتبع كيرة نفس الاستراتيجية، يظهر كطالب عادي غير عابيء بالسياسة صباحًا، ثم يلبس عباءته فور تواريه عن الأنظار ويخرج كالغراب باحثًا عن الانتقام والحرية. كل ذلك على الرغم من وجوده ومغامراته التي سبقت ظهور شخصية سوبرمان.
عبد القادر محمد شحاتة هو محاولة أحمد مُراد الأخرى في استعادة صورة البطل الخارق التي غابت لأكثر من خمسين عامًا عن السينما المصرية.
هو شاب ثوري قاوم الاحتلال الإنجليزي بكل السُبل المتاحة أمامه من خلال نشاطه السياسي وتوزيع المنشورات في صعيد مصر، خاصًة في محافظة المنيا ثم بعد ذلك من خلال انضمامه للتنظيم السري للثورة وحُكم عليه مرتين بالإعدام.
والغريب أن الديناميكية التي خلقها الكاتب بين أحمد كيرة وعبد القادر الجِن لها أيضًا ارتباط خفي بمفهوم البطل الخارق. فعلاقة الصداقة والنضال ما بين الشخصيتين يمكن تشبيهها بعلاقة باتمان وروبن هوود.
فكما رأي كيرة في عبد القادر الجِن بطلًا وصديقًا وكتف يمكن الاعتماد عليها في مقاومة الاحتلال رأي باتمان نفس الشيء في روبن. وكما أتى روبن من عائلة محطمة وماضٍ ممزق كان لعبد القادر ماضٍ مشابه وحياة مشابهة.
ولكن وكما قُلنا سابقًا، المدهش هو أن كيرة والجن سبقت مغامراتهم ومقاومتهم كُل هؤلاء الأبطال الخارقين، ورد فعل الجمهور على فيلم كيرة والجن أكبر دليل على نجاح تلك التجربة وافتقار السينما المصرية لها واشتياق مُحبيها -خاصًة من الجيل الصاعد- لوجود بطل خارق خاص بهم وينتمي إليهم.