سنقدم لك في هذا لمقال مراجعة رواية سارة. سارة، هي الرواية الوحيدة التي خطها العقاد في حياته، فالمعروف عن العقاد أن مؤلفاته كلها والتي تربو على المئة؛
اليك ايضاً مراجعة كتاب حالات نادرة من هنا.
كانت متنوعة في شتى الفنون والمجالات، إلا في فن القصة والرواية، فالعقاد كان معارضًا شرسًا لذلك الفن الحديث؛ فقد وصف الرواية بأنها بلا قيمة، والمُثقف إذا استبدل بها عشرة أبيات عمودية كان ذلك خيرٌ له وأبقى.
وقد أثار ذلك الرأي حفيظة العديد من الكتاب الشباب الجُدد، وعلى رأسهم شاب ثلاثيني سيكون له باعٌ في الأدب العربي والعالمي فيما بعد، وهو نجيب محفوظ، والذي كتب مقالًا بعنوان الرواية في نظر العقاد؛
انتقد فيه موقف العقاد من فن الرواية. صراحة الأمر، لم يأبه العقاد بالرد على نجيب محفوظ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لو كان رأي العقاد في فن الرواية رأيًا سلبيًا، فلماذا إذاً خطَّ بقلمه العزيز رواية سارة؟!
في مراجعة رواية سارة وقبل أن نعرف السبب وراء كتابة العقاد لتلك الرواية، ونعرف من هي سارة، دعنا – يا صديقي – نتعرف على الرواية، تدور أحداثها في ثلاثينيات القرن الماضي، بين فتاة في الـ 25 من عمرها، اسمها سارة، وشاب مثقف كاتب في الـ 32، اسمه همام.
تبدأ الرواية بتذكر الرجل الثلاثيني “همام” ذكرياته مع “سارة”، وكيف كانا يتقابلان في عدة أماكن، مثل؛ السينما؛ ودار الصور؛ والمكتبات لشراء الروايات، واللافت هنا أن كل تلك الأماكن عند العقاد ليست سوى مواقع حدث، فلا يحمل لها الحنين كما يحمل للأشخاص فيها.
ينطلق العقاد في روايته ساردًا ذلك الشك المُضني المؤرق لجنبات صاحبه همام؛ فهو يشك في سارة، هل تعرف غيره من الرجال؟ هل تفتعل الثقافة والعفة؟ أم أنه فقط يشك فيها من غير سبب.
وفي سبيل قتل ذلك الشك، والشك لا يرتقي لليقين، يعتمد أسلوب الرقابة، وهو إرسال صديق له في أثر حبيبته التي تقع منه موقع الشك، فيبدأ الصديق الغافل، بتتبع العشيقة سارة، ليكتشف همام في آخر المطاف أنها فعلًا على علاقة برجل غيره.
هنا يُقرر همام بكبريائه وعناده، ترك سارة، بل ويطلب منها أن تدعه وشأنه وتنطلق إلى حياتها مع ذلك الغريب الذي تعرفه، لكن لكيوبيد الحب دورًا في زعزعة استقرار همام:
“إن كيوبيد شيطان مريد له لؤم الشياطين ونزعاتهم ومكائدهم وكراهتهم أن يتركوا الناس هادئين وادعين، فمن حين إلى حين كان همام يُهجس له ويُهمس في صدره ليسلبه ارتياحه إلى فراق سارة وقدرته على تناسيها فلا يفتأ يعاوده أبداً بهذا السؤال:
أليس من الجائز أنها وفت لك أيام عشرتها واستحقت وفاءك وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلّت بعد فراق؟!”
ذلك الشك القاتل الذي يأخذ بتلافيف عقل البطل والكاتب طوال مسيرة القصة، لا ينتهي أبداً، بل يظل ساعيًا في استضخامه المريب، حتى ليكاد كل من حول البطل يتأذون، وليست سارة وحدها هي من تأذت، بل كل من يقربه ذلك الشك المُضني.
تعرف على تلخيص لأهم نقاط في كتاب أربعون لأحمد الشقيري من هنا.
في تلك الرواية، يستعرض العقاد العديد من الأسئلة والحوارات الفلسفية بين سارة وهمام، في الحب والثقافة والجمال.
صدرت تلك الرواية عن دار المعارف بمصر عام 1938م، ثم أُعيدت طباعتها أكثر من مرة. وهي حوالي 118 صفحة، وفي عام 2013م قامت مؤسسة الهنداوي بطبعها ونشرها.
يبقى السؤال الشائك المرتبط بذلك العمل حين نذكره دائمًا، من هي سارة؟ قال عباس العقاد في الطبعة الثانية لتلك الرواية:
“كتبت هذه القصة ـ فيما زعم بعضهمـ لغير شيء، إلا أنّني أردت أن أجرب قلمي في القصة. لهذا السبب وحده كتبت سارة. وهو سبب قد يصح أو يكون له نصيب من الصحة، لو أنّني اعتقدت أنّ القصة ضريبة على كل كاتب، أو اعتقدت أنّ القصة أشرف أبواب الكتابة في الفنون الأدبية، أو اعتقدت أنني مطالب بالكتابة في كل موضوع تجول فيه أقلام المؤلفين”.
هنا في تلك الفقرة ينفي العقاد قطعًا أي صلة بالرواية وبين تجاربه الشخصية التي مرّ بها، رغم أن المبتدئ في القراءة سيعلم أن تلك الرواية مكتوبة بصيغة مذكرات سردية؛ لِمَا فيها من عتاب ومعاناة.
فالعقاد حاول قدر الإمكان التنصل من أي ادعاء جال حول تلك الرواية، فالبعض قال إن سارة امرأة إسرائيلية أحبها العقاد في فترة ما، فنفى العقاد ذلك بشدة.
وقال البعض الآخر إنها إشارة للفنانة المصرية الصاعدة وقتذاك مديحة يسري، والتي كانت في عمر الخامسة والعشرين والعقاد في الثانية والثلاثين.
وقال رأي آخر أنها إشارة لمي إلياس زيادة، لما اشتهر عن العقاد حبه الجم الشديد لها. وقال فريق رابع بل إنها إشارة لامرأة لبنانية اسمها أليس داغر.
لكن الثابت الذي لا شك فيه أن سارة ليست مجرد رواية، وليست مجرد امرأة عابرة في حياة الكاتب، وليست من نسج الخيال وإن ادعى هو ذلك، بل هي امرأة تركت فيه آلامًا لا تُحصى وجراحًا لا تدمل،
ففي يوم من الأيام حين قارب العقاد موعده الأخير مع تلك الحياة، قرأ أصدقاؤه أمامه قصيدة كتبها في سارة نفسها، فانهمرت دموع صامتة من عينيه، حاول إخفاءها تاركًا المجلس!
فسارة هي علامة استفهام في حياة عباس محمود العقاد، والذي سُمي براهب الأدب العربي، ودائمًا ما نسأل عنها، لنعرف من هي وسط كل النساء اللائي عرفهن العقاد؛ مديحة يسري، أم مي إلياس زيادة، أم سارة الإسرائيلية، أم أليس داغر؟ لا أحد يعلم.
لكن كل ما نعرفه ولا نستطيع إنكاره أن سارة امرأة حقيقية وليست نسجًا من الخيال، تركت أثرًا على العقاد الذي هام بها حبًا وعشقًا وولعًا إلى حد الجنون، فمال العقاد وهو من هو – ملء السمع والبصر، رب الآداب والكلمات – يُنكر ذلك الحب الغائر في صدره!
“قد أكتم الوجد والأشواق بائحة ** وأستر الدمع والأجفان تنهمل”
وذلك البيت يصدق في العقاد وكل عاشق، فلو كَتم الهوى، فالأشواق تُعرف عن نفسها في كتاباته، ولو ستر الدمع فهو بادٍ ولو جمد.
إقراء ايضاً مراجعة رواية صاحب الظل الطويل من هنا.