مراجعة كتاب حول العالم في 200 يوم. “إن هذا الإحساس بأنك على سفر دائمًا.. بأنك ستترك أُناسًا وتلتقي أناسًا.. بأنك ستفقد أحدًا، أو ستكسب أحدًا.. هذا الإحساس يُسكرني.. إن أتعس شيءٌ في الدنيا أن نكون (هنا) دائمًا.. أو نكون (هناك) دائمًا.. ألا نفقد أحدًا.. ألا نكسب أحدًا.. أن تكون أنت بظروفك وبيئتك وكل الناس مثل توأميْ سِيام لا تنفصلان أبدًا”.
تعرف ايضاً على كتاب لأ بطعم الفلامنكو من هنا.
في تلك الجملة المُقتبسة من كتاب حول العالم ومن مراجعة كتاب حول العالم في 200 يوم، يُلخص أنيس منصور فكرته عن الحياة، وأن لا ثابت فيها سوى الصيرورة والتغير؛ فالحياة تجري وتسير، كذلك نحن. يحمل ذلك الكتاب العديد من الأسرار عن العوالم المُختلفة، من عادات وتقاليد لدول كثيرة وأهمها دول شرق آسيا كالهند والصين واليابان والفلبين.
يسرد في كتابه الفيلسوف أنيس منصور رؤيته وفلسفته في شكل أدبي فلسفي سلس، كالسهل المُنبسط خالٍ من التعرجات هو أسلوبه.
ذلك الأديب والفيلسوف الصحفي الذي أتقن أكثر من لغة، ورسخ الفلسفة الوجودية في كتاباته جاعلًا إياها سهلة المذاق، نافذةً لعقول البُسطاء. أديب يفخر به القاصي قبل الداني؛ قدم للأدب العربي ما لا يقل عن أساتذته من العقاد وغيره.
عن أنيس منصور نتحدث، الرجل الذي عانى ويلات حكم عبد الناصر، وذاق العسل إبان حكم السادات وخلفه مُبارك، وكان على موعد مع الموت ثلاث مرات، لكنه نجا، وكان الفضل يعود لأمه.
وُلد أنيس منصور في شربين بالقرب من مدينة المنصورة سنة 1924م، وحين بدأ بالتعلم، حفظ القرآن الكريم في كُتاب القرية، وقد جسد هذه العلاقة الأولى بينه وبين القرآن الكريم تجسيدًا رائعًا في سيرته الذاتية “عاشوا في حياتي”.
وقد حفظ القرآن وهو لم يبلغ بعد التاسعة من عمره، فظهرت نباهته وقدرته على التركيز والاستذكار، فأُعجب به الناس وأهله، وبعد التحاقه بالمدرسة، كانت نباغته وسعة إدراكه ظاهرتين، فحين تبدأ حصة اللياقة البدنية، يرفض أساتذته مُشاركته في تلك الحصة ويرسلونه إلى المكتبة للمذاكرة والقراءة وهم يقولون له: “دعك من زملائك فهم (بايزين)”(2)،
وبفضل تلك السعة المعرفية والعبقرية المُبكرة التي أخذت تتشكل منذ الصغر، استطاع أنيس منصور أن يلتحق بالثانوية ويحوز المركزَ الأول على مستوى الجمهورية كلها، فيختار كلية الآداب قسم الفلسفة، لتعلقه الشديد بذلك العلم، ورغبته في دراسته ومعرفة أعلامه وتطوره.
ولمّا بدأ بدراسة الفلسفة، وتخرج في جامعة عين شمس سنة 1947م، كان الأول على دفعته، فعُين معيدًا جامعيًا، وكان أن بدأ بتدريس الفلسفة الوجودية للطلبة، بل واعتنقها كذلك، لاسيما الشق الإيماني منها، لفلاسفة أمثال “كريكارد” و “دوستويفسكي”.
ظل في الحياة الجامعية منذ عام 1954 إلى عام 1963م، وعاد إلى التدريس الجامعي مرة أُخرى عام 1975م. وفي تلك الفترة كان أن بدأ الاتصال بعدد كبير من الكُتاب العِظام وقتذاك، وعلى رأسهم عملاق الأدب العربي “عباس محمود العقاد” الذي ترك عظيم الأثر على أنيس منصور، وخلق فيه ذلك المُثقف المُتقن للعديد من اللغات،
وكتب أنيس عن أستاذه العقاد كتابًا بعنوان “في صالون العقاد كانت لنا أيام”. وتعرف على جيل العمالقة كلهم وتأثر بـ “توفيق الحكيم” و “طه حسين” و “عبد الرحمن بدوي” وغيرهم من المُفكرين المصريين العِظام.
تنوعت مجالاته بين الصحافة والأدب والفن والفلسفة، وكان يُعد أصغر رؤساء التحرير في مصر، حيث تولّى رئاسة تحرير مطبعة المعارف، وهو لم يتخطَ الثلاثين من عمره.
تنقل بين أشهر المؤسسات الصحفية في مصر، مثل: أخبار اليوم، والهلال، والأهرام، وآخر ساعة. وكان أقرب الكُتاب الصحفيين إلى الرئيس السادات، فقد كان مثل هيكل بالنسبة لعبد الناصر، وكذلك في عهد مُبارك كان أقرب الصحفيين إليه، حتى أن مُبارك سُئل قبل ذلك عن أكثر الكُتاب والصحفيين الذين يُطالع أعمالهم، فأجاب بسرعة: “أنيس منصور”،
وفي 31 أكتوبر من عام 1976م، كلّفه السادات بإنشاء مجلة أكتوبر، وهي مجلة عربية اجتماعية سياسية شاملة، وقد فعل وتولى رئاسة تحريرها آنذاك. ومن قرابته الشديدة للسادات كان جميع من حوله يحذرونه ويخافون عليه من تلك القرابة، حتى أنه كان كاتم أسرار السادات ووصل به الأمر إلى أن يطلب منه البعض – بعد وفاة السادات- أن يُصرح بتلك الأسرار أو يؤلف عنها كتابًا،
لكنه رفض، وقرر أن يموت بها كدليل على أمانة الفيلسوف الذي بداخله. ومن صور تلك القرابة أنه رافق السادات في رحلته إلى القدس عام 1977م، وكان من أكثر مثقفي العرب تحمسًا لمعاهدة السلام مع إسرائيل، مثل باقي الكُتاب الذين كانوا يدعون إلى الحوار مع ذلك الكيان، كنجيب محفوظ ويوسف السباعي حتى محمود درويش وإدوارد سعيد.
وفي عهد مُبارك، عاش أنيس منصور قريبًا منه ومن قصره، وشهد على مدار ثلاثين عامًا كل التطورات وعمليات الخصخصة التي حدثت في البلاد إبان العهد الظلامي، وشهد إلى أين انتهت الأحداث باندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير.
اليك ايضاً مراجعة رواية صاحب الظل الطويل هنا.
طُبع ذلك الكتاب أول الأمر عام 1963م، وكان سعره 60 قرشًا، ثم 70 قرشًا، ولمّا انتقل لدار القلم (الشروق حاليًا) تخطى الثلاثين والستين جنيهًا، وإلى الآن يُعد ذلك الكتاب من أغلى الكتب وأكثرها دسامة؛ ذلك لأنه باهظ الثمن (حسب النسخة المنقحة الفاخرة)، وأنه يُعد عملًا ضخمًا حيث يحوي 616 صفحة بين دفتيه، فيهم خلاصة رحلة الفيلسوف الفريد من نوعه.
قرر أنيس منصور أن يخوض رحلة حول العالم، استغرقت أكثر من 200 يوم، زار فيها العواصم الأوروبية وبلاد جنوب شرق أسيا كالفلبين وسنغافورة وأستراليا واليابان، وأقام في الهند فترةً، تعرّف فيها على ثقافة الشعب هناك. ويُعد ذلك الكتاب هو الأول من نوعه في أدب الرحلات، مما جعل أنيس منصور زعيمَ ورائدَ ذلك الأدب دون منازع يُذكر.
تحدث أنيس منصور في ذلك الكتاب في أولى صفحاته عن رحلته إلى الهند، بالتحديد مدينة مومباي، وكم هي مدينة مزدحمة بالسكان، وسرد العادات والتقاليد فيها، وزيارته لإحدى المطاعم هناك، مطعم مكتظ بالزبائن، والطاولات فيه قليلة،
والطعام فيه أغرب، والشيء الوحيد المعروف هو الشاي الساخن في جو حار جدًا. هذا فضلًا عن عروجه على تنوع اللغات هناك في الهند مما يجعل وسيلة التواصل مع السكان هناك أصعب، ونادرًا ما تُقابل أحد المتقنين للغة الإنجليزية.
وفي الفصل الثاني يتناول الكاتب رحلته إلى جزيرة سيلان والتي نالت استقلالها كجمهورية ولكنها ظلت تتبع التاج البريطاني. تجد في ذلك الفصل تعلق أنيس منصور بتلك الجزيرة حيث وصفها بجزيرة الأحلام، وأنها مثالٌ رائع على الهدوء وراحة البال والسكينة.
في الفصول التالية من الكتاب ينطلق بنا أنيس منصور في رحلته نحو أستراليا ساردًا عادات أهلها التي سجلها بدقة وبشكل فلسفي، مُتحدثًا عن الأصدقاء الذين تعرف عليهم هناك ثم فارقهم. ثم ينطلق بنا نحو اليابان وسنغافورا والفلبين،
مُتحدثًا عن زراعة اللؤلؤ المنتشرة في تلك الدول، والتي اكتشفها “ميكوموتو”، وعن أعيادهم واحتفالاتهم العديدة المُستمدة من طقوس دينية وتراثية هناك تحدث في فصول معينة.
ومن مراجعة كتاب حول العالم في 200 يوم أن أهم ما في الكتاب، أن أنيس منصور يُعد أول كاتب وصحفي عربي يُقابل رئيس دولة التبت “الدالاي لاما” الحائز على جائزة نوبل للسلام والتقط معه صورة تذكارية مُدرجة في صفحة 106. ومن القصص الطريفة عن تلك الزيارة أن أنيس منصور كان يحاول الوصول إلى ذلك الكاهن المشهور أو القديس على حد قول أتباعه،
فتكلّفتَ في سجادة كانوا يصعدون بها الجبل (أي تلفع بالسجادة منطويًا داخلها) إلى مقر الزعيم الروحي، ولما انفرجت السجادة عن سرائرها، خرج أنيس منصور فجأة أمام الناس وسط ذهول الجميع، مستجديًا كرم الزعيم الروحي لعقد حوار صحفي معه، فوافق الرئيس،
ومما يُذكر أن في ذلك الوقت كان الزعيم مُصابًا بالبرد، فنُقلت العدوى “المقدسة” إلى أنيس منصور وظلت ملازمة إياه أيامًا طويلة، رغم ما عُرف عنه كرهه الشديد للبرد والإنفلونزا!
من مراجعة كتاب حول العالم في 200 يوم، يُعد أحد أدبيات الرحلات العالمية، فما سجله أنيس منصور يُعد استكمالًا لرحالة كُثر كابن بطوطة وماركو بولو وغيرهما، كما أن الكتاب يحوي مقطوعات فلسفية عِدة ليس بيسير على القارئ فهمها ولا عصي عليه في نفس الوقت، لكنها تحتاج إلى التأني والتريث، وأحسب أن من امتلك نسخة من ذلك الكتاب صغيرًا لابد وأن رافقه كبيرًا في رحلاته.
تعرف على رواية فيلم ريتسا من هنا.