يُغامرُ البعض بفعل أشياءٍ تبعُدُ كل البُعدِ عن من يكونون، عن شخصيتهم وكيانهم.. منهم من يُغامر بدافِع التجربة ومنهم من يفعلها من أجل اكتسابِ شُهرة أوسع. واليومَ، سأحدثكم بالتفصيل عن أولئك المُغامرين.. عن حياتهم قبل وبَعد التجربة، وعن التجربةِ ذاتِها. هل نجحت؟ أم تُراها كانت مُجرد محاولة عابِرة ليس إلّا؟ سأحدثكم عن مشاهير اتجهوا لعالم الكتابة.
ولكن مغامرينَ اليومَ ليسوا أية مُغامرين، فهُم قد غامروا بسنواتِ عملهم الطُوال وبكل نجاحاتهم السابقة.. غامروا بكل ما حققوه فقط من أجلِ تجربةِ شيءٍ جديد، فمنهم من استطاعَ اجتيازِ تلك التجربة ببراعةٍ وإيجاد ذاته في ذاك المجال الذي لم يكن يومًا يتوقع دخولَه.
ومنهم من مرَّ بتلك التجربة مُرورًا سريعًا، فلم يلمحْ منها إلا طشاشًا. سنتحدث اليومَ عن ذاك الرابط الذي قد جمع بين المُغامرين والتجربة؛ وبالتحديد عن الرابط الذي قد وصل بين المشاهير وعالم الكتابة.
في السنواتِ الأخيرة، لاحظنا زيادة واضِحة في عددِ المشاهير الذين يُغامرون بدخولِ عالم الكتابة، فوجدنا أغلبهم يتجهون لتأليف الكتب عن سيرةِ حياتهم رغبةً منهم في تخليدِ مشوارهم الفنيّ والشخصيّ، والتواصلَ أكثر مع جمهورهم كي يعرفوا الصُعوبات التي مرّوا بها وكيف تغلبّوا عليها فحينَها رُبما يمنحونهم حكمةً أو عِظةً لمُجابهةِ الحياة.
لكن على الجانبِ الٱخر، يلجأُ بعض المشاهير إلى عالمِ الكتابة كوسيلةٍ لجني المزيد من الأموال أو لتسليط الضوءَ عليهم لا غير.. فيستأجرون كاتبًا مجهولًا ويشرعون في إملائه تفاصيل حياتِهم ويقومُ هو بصياغتها بأسلوبٍ لطيف.. وبين هؤلاء وهؤلاء، يبقى السؤال الذي يطرحُ نفسَه باستمرار.. هل الكتابةُ وسيلةٌ أم موهِبة؟
والآن، دعونا نتعرفُ على بعضٍ من أولئك المشاهير الذين اقتحموا عالمَ الكتابةِ واستطاعوا إبهارنا بموهبتهم التي تجلّت بين أسطُر كتبهم:
وأول مُغامرينا هو الإعلامي الشهير حمدي قنديل. بدأ قنديل عملَه كصحافيّ في خمسينيات القرن الماضي ومن ثمَّ بدأ عملَه كمذيع في بداية عام ١٩٦١ وكان ذلك من خلال برنامج أقوال الصحف واشتهر الإعلاميّ من بعدِها بمواقفِه الجريئة وبرامجه السياسية المُميزة والتي حققت مُشاهدة عالية ٱنذاك، لينتقل من بعدِها قنديل إلى عالمِ الكتابة.
فقد وثقّ قصة حياتِه في كتاب ”عشتُ مرتّين“ والذي تناولَ فيه كل المحطّات المِهَنيّة والشخصيات التي مرّ بها في حياتِه. سواءً أكانوا مُجرد عابرين أم دائمين؛ مثل زوجتِه نجلاء فتحي التي كان لها أثرًا ضخمًا في حياتِه.
أنجزَ قنديل كتابَه عشتُ مرتّين بعد سنة ونِصف من التفرّغ التام لهذه المُهمة، علمًا أنه لم يُفكر يومًا بأن يكتُبَ مُذكراتِه. وقد ابتدأ قنديل كتابَه قائلًا:
”الذِكرياتُ لا تعني شيئًا إلا لو شاركني فيها الٱخرون“
وبالتالي، فإن الذكريات والأحداث هي التي كانت تفرِض عليه أن يلتقِطَ قلمَهُ ويُدوّنها. عشتُ مرتّين تُعتبر سلسلةً قد امتزجت بين صراحةِ الإعلاميّ النادِرة وأسلوبِه الحميميّ المُشوّق. يحكي لنا فيها عن الشخصياتِ المُثيرة للجدل التي قابلها على مدارِ سنواتِه كلها. من ساسةٍ وحُكام ومُفكرين.
كما حدثنا في هذه السلسلة عن التجارُبِ التي مرّ بها وكيف تعامل مع كلٍ منها. مرورًا بتقديمِ برامج هامة مثل قلم رصاص ووصولًا إلى مُشاركتِه في تأسيس القمر الصناعيّ العربي!
وقد رحل عنّا منذ عامين عن عُمرٍ يُناهِز الثانية والثمانين، فارق الحياة.. ولكن بقيت أعمالَه بيننا، حيةٌ تتنفس!
تعرف ايضاً على أفضل كتب الأطفال
وُلِدت ميشيل روبنسون في السابع عشر من يناير عام ١٩٦٤ في مدينةِ ”شيكاغو“ وترجع جذور عائلة روبنسون إلى أصول أفريقية قد عاشوا في جنوب الولايات المُتحدة. نشأت ميشيل وترعرعت في منزلٍ مُتواضِعٍ على حدّ وصفها، فكان أقصى ٱمالِها هو العيش تحت منزلٍ ذي طابقين.
عانى والدها من مرضِ التصلّبَ المُتعدد والذي كان له أثرًا نفسيًا على نشأتِها ولكنها عزمت على ألّا تدع أي أمر يُصرِفها عن دراستِها. ولم تلبثْ الحياة أن انطلقت بها بعيدًا، فقد التحقت ميشيل بكلية الحقوق جامعة هارفارد وبعد انتهائها من تلك المرحلة التي لم تخلو من العُنصرية التي كانت تتلقاها من كل صوب بسبب لون بشرتها الداكن.
ولكنها سُرعان ما اكتشفت أن كل هذا لم يُنقصها شيئًا بل زادها ثقةً وإصرارًا.
لتلتقي ميشيل من بعدِها بـ باراك أوباما؛ ومن هنا بدأت ميشيل فصلًا ٱخر تمامًا من حياتها، لتُصبح من بعدها السيدة الأولى للولايات المُتحدة. شعرت ميشيل برغبة عارِمة في تدوين كل ما حدث معها، بدايةً من طفولتِها البائسة ومرورًا بكل أشكال العُنصرية التي تعرضت لها باستمرارِ أثناء سنواتِ دراستها، وصولًا إلى قصةِ حبها وزواجها.
انقسم كتابُ ميشيل الذي قد عنونته Becoming إلى ثلاثة أقسام: أن أصبحَ أنا وأن نصبحَ نحن وأن نُصبحَ أكثر
في هذا الكتاب، تدعو ميشيل أوباما القُراء إلى عالمِها الخاصّ وتؤرخُ التجاربَ التي عاشتها منذ طفولتِها إلى سنواتِها كمديرةٍ تنفيذية، تُحاول المُوازنة بين متطلباتِ الأمومةِ والعمل معًا. بأمانةٍ لا حصرَ لها وذكاءٍ مُفعمٍ بالحيوية تصفُ ميشيل انتصاراتها وخيباتِ أملِها وتروي قصتها الكاملة مثلما عاشتها تمامًا ولكن بأسلوبِها وكلماتها الخاصة.
تلك الكلمات التي لامست قلوبَ الكثير من الناس، فوجد البعض نفسَه بين صفحاتِ الكتاب والبعض الٱخر شعر بأن ميشيل تُشاركه مخاوفه وأحلامه التي لطالما رغبَ بتحقيقها.
إقراء ايضاً ترشيحات كتب للقراءة
شعرَ القُرّاء بأن هناك من عاش هُمومَهم وتعامل معها؛ بل واستطاع اجتيازها أيضًا والوصول لبرّ الأمان. يأخذنا كتاب ميشيل في رحلةٍ بين مطابخِ ٱيوا المتواضعة وقاعات رقصِ باكنغهام الفخمة، يُبحِر بنا بين لحظاتِ الحُزن العميق والشُعور بالقُدرة على التغلب على أشد الضرباتِ إيلامًا في ذات الوقت.
يأخذ بيدينا نحو ما يدورُ في أعماقِ إحدى شخصياتِ التاريخ الفريدة؛ خلال نضالها لتعيش حياةً غير مُزيفة. وبذاك الكتاب الذي روَت لنا ميشيل فيه كل تفاصيلَ حياتِها تِباعًا، تضعنا ميشيل أمامَ سؤالين لا مفرّ منهما. من نحنُ؟ ومن نريد أن نُصبحَ؟.
ولأنني لم أستطع مُقاومة كلمات ميشيل..اقتبستُ أكثر ما ألهمني لأشاركه معكُم:
”إذا لم تخرُج للعالم وتُعرف نفسَك بنفسِك، فسوف يتم تعريفَك بسرعةٍ وبشكلٍ غير دقيق من قِبَل الأخرين“
يُعد علي نجم من الإعلاميين المُتميزين والمُبدعين، حيث بدأ مشوارَه الإذاعيّ في إذاعة مارينا إف إم وهو يبلُغ السادسة عشر فقط؛ وهو الٱن قد أتمّ عامَه الواحد والثلاثين. أي يُمكننا قول أنه وهب نِصفَ عُمرِه للإعلام والإذاعة. كما أنه قدّم العديد من البرامج المُختلفة والمُمتعة مثل برنامج أنتَ المُذيع وبرنامج ريفرش وهذا الأخير قد حقق شُهرةً واسِعة في كافةِ الدول العربية.
ولم يكتفِ علي نجم بتألقِه في مجالِ الإذاعةِ فقط بل توجّه أيصًا للكتابة، فجذبت عناوينَ كتبَه المُبتكرة الناس من مُختلف أنحاء الوطن العربيّ مثل كتاب زحمة حَكيْ وكتاب جاري الكتابة وقد حقق كلاهما شُهرةً واسِعة بين الشباب، وذلك يرجِع لاقترابِ مُحتواهما من واقِعهم.
يُعدّ كتاب زحمة حكي من الكتب الجديدة التي لاقت استحسانًا كبيرًا بين القُراء، وما يُميّز هذا الكتاب عن غيرِه أنه قد كُتِبَ باللغة العامية الكويتية. كما يحتوي بين طيّاتِه على العديد من المشاعر والأحاسيس التي تُحاكي العاطفة والمنطق. زحمة حكي يُعتبر خليطًا من المشاعرِ القديمة والمشاعر التي تنضُجُ أمام كل مشكلةٍ تُواجهنا في الحياة.
ومشاعرٌ أخرى تكتشفُ نفسها بنفسِها مع كل تجربةٍ جديدة نخوضُها في الحياة. وفي كل صفحةٍ من صفحاتِ الكتاب ستتعرفُ على مشاعرٍ مُختلفة..فتجدُ صفحاتِ الكتاب مُتصلة ومنفصلة في ٱنٍ واحد؛ مُتصلة من حيث القالِبِ فجميعُها تدور حول القلب وما يتدفق منه من مشاعرٍ إنسانية. ومُنفصلة حينما تحكي قصصًا ومواقِفًا بعيدةٍ كل البُعدِ عن بعضها البعض!
واقتبستُ من هذا الكتابِ بِضعة أسطُرٍ؛ لعلّها كانت أكثرهُن تأثيرًا بي:
”الأمرُ ليس بكثرةِ الموجودين حولَك، إنما بمن يأتيكَ دون أن تُناديه، ومن يُربّت على كتفكَ دون أن تُخبرَه أنك مُثقَلٌ..“
وقد صرّح علي نجم في إحدى مُقابلاته قائلًا:
”لا أطمحْ من خلالِ ما دونتُه في هذا الكتابِ أن أكون كاتبًا أو أديبًا أو رُوائيًا، فهذا المجالُ له مُبدِعوه.. أنا فقط عبرّتُ من خلالِه كإنسانٍ يمتلكُ ورقةً وقلمًا، عبرّتُ عمّا يجولُ في قلبي وما كنتُ أمرّ به من أحاسيس ومشاعر ومواقف، منها ما ٱلمني ومنها ما لم أتوقع يومًا أنني سأستطيع مُشاركته مع أي أحد“.
ومُغامرتنا الأخيرة هي أوبرا؛ ومن مِنّا لم يسمَع باسمِها من قبل؟ أوبرا التي بدأت قصةَ حياتِها ببدايةً مأساوية ولكنها استطاعت أن تُتوّج بقيّة القصة بالنجاحِ والشُهرة. وبالأكثرِ، بالسعادة!
وُلِدَت أوبرا وينفري في التاسِع والعشرين من يناير عام ١٩٥٤ وبعد فترة مُراهقة مُضطرِبَة حيثُ تعرضّت للإيذاء الجنسيّ من قِبَل عددٍ من الأقارب الذُكور، استطاعت أوبرا الانتقال إلى ناشفيل لتعيشَ مع والدِها والذي كان يعمل كحلاقٍ ورجل أعمال. التحقت أوبرا بجامعة ولاية تينيسي عام ١٩٧١ وبدأت بالعملِ في البثّ الإذاعي في مدينة ناشفيل.
ومع زيادةِ شُهرة أوبرا وينفري بشكلٍ كبير، ظهرت لها في عام ٢٠٠٢، مجلة أوبرا، وآللون البنفسجى في عام ٢٠٠٥، ساعدت وينفري على منح حياةً جديدة على خشبةِ المسرَح كواحدةٍ من مُنتجي المسرحية الموسيقية والتي رُشِحت للمرة الحادية عشر لـجائزة توني. لتتجه أوبرا من بعدِها إلى الكتابة، وقد صرّحت من قبل في إحدى مُقابلاتها:
”أظهرت لي الكُتب أن هناك احتمالاتٌ في الحياة.. فالقراءةُ أعطتني أملًا، كانت الكُتب بالنسبة لي هي البابُ الوحيد المفتوح“
وكان حُبها للكتب هو الدافع الأول لتدوين بعضًا من التجارب التي عاشتها، ومن بين كتبها العديدة، اخترتُ أقربهم إلى قلبي أنا.
ما أعرفة بالتأكيد، هو كتابٌ ترى فيه أوبرا أن الفرحَ ما هو إلا القُدرة على تذوق تجارُب الذروة والتعرّف على خِبراتٍ جديدة والتي يُمكن أن تتحقق من خلالِ أبسطِ الأشياء؛ مثل قراءةِ كتابٍ جيّد أو احتساء فنجانًا من القهوة. ويُشيرُ كتابها إلى أن عيشَ حياةٌ سعيدة ليس إلا خَيار، خيارٌ نختارُهُ نحن بكاملِ إرادتِنا.
وتطرّق الكتابُ إلى طفولةِ وينفري التي حتّمت عليها التعامُلَ بمرونةٍ، وِفقًا لما كتبته وينفري.. فإن الشيء الذي حوّل حياتها كان إدراكُ أن ما يُهم حقًا هو كيف سنستجيبُ للأحداث السلبيّية التي ترميها لنا الحياة باستمرار، أن تكونَ قادِرًا على استخدامِ النكساتِ التي تُواجِهُكَ وتحويلها لشيءٍ تنمو من خلالِه أكثر فأكثر.. برأي أوبرا، هذا قمة المُرونة وأعلى درجاتِ النجاح!
بالنسبة إلى وينفري، فإن الحياةَ ما هي إلا رحلة روحيّة مليئةٌ بالمُعجزات؛ مُعجزاتٍ تتأملها لتشعرَ بالرهبةِ والأمانِ في ذات اللحظة!
وعلى الرُغمِ من أنّ هذا كله يوحي بـمجموعةٍ متنوعة من الأشياء، إلا أن الفكرة الأساسية التي تُريدُ وينفري إيصالها هي أن تؤمِن بذاتِكَ، بصوتِكَ الداخليّ وبأحاسيسك كلها. كتاب ما أعرفُه على وجه اليقين قد عبّر عن روحِ كاتبتِه بقوة.
فقد جعلنا نعيشُ معها كل مراحِلَ حياتها، مُستخلِصين من كل مرحلةٍ عِبرةً مُختلفة، ومشحونين بجُرعاتٍ من الإيجابية التي ضختها كلماتُها فينا.. ومُقتبسين بِضعًا من أقوالِها المُلهمة.. وبدوري، اقتبستُ تلك الكلمات التي قد أعطتني دُفعةً خفيّة إلى الأمام:
”أعرفُ على وجه اليقين أنك إذا خصصّت وقـتًا تشعُر فيه ولو بقدرٍ بسيطٍ من الامتنانِ كل يوم فستندهش من النتائج..“
”أعرفُ على وجه اليقين أنك لم تُخلَق لتتضاءل أكثر فأكثر، وإنما خُلِقتَ لتكون أكثر ازدهارًا، لتكون أكثر إشراقًا، لتكون أكثر تفردًا، لتستغلّ كل لحظةٍ لإشباعِ نفسِكَ..“
في بعضِ الأحيان، تبقى الكتابةُ هي الطريقة المُثلى لإيصال المشاعر وللبوحِ بكل ما يعترينا.. تبقى الكتابة هي تلك التي نلجأ لها عندما يضيقُ صدرنا؛ فكل شخص يُعبر عما يجول بخاطرِه بالطريقة التي تُناسبه؛ فهناك من يُعبر من خلال فُرشاةً وبِضعة ألوان.. وهناك من يُعبر من خلالِ مشهدٍ وكاميرا.
إقراء ايضاً من هو موليير الكاتب الفرنسي
وهناك من تكمُن كل قوتِه في صوتِه؛ فيُعبر عن ذاته من خلال عدة ألحانٍ ووترٍ مُتراقِص. وهناك من لا يعرِف سِوى الحِبر والأحرف. يوجَد الكثير والكثير غير أولئك الذين ذكرتهم، أولئك الذين وجدوا في الكتابةِ مسكنًا لهم يأوون إليه من صخبِ العالم.