في فيلم كيرة والجن المُقتبس عن رواية ١٩١٩ الصادرة عام ٢٠١٧ للكاتب والروائي أحمد مُراد، تنكشف الكثير من الحقائق والأسرار الهامة والخطيرة عن ثورة ١٩١٩، نِتاج بحث دام أكثر من عامين من قِبل الكاتب حول أهم الشخصيات البارزة والمؤثرة في قيام تلك الثورة، وكذلك الشخصيات التي حاولت عرقلتها وتفرقة جموعها.
وأهم هذه الأسرار هي مكان نشوب وتحفيز الشرارة التي انطلقت في الجموع كالنار في شجر الصنوبر، والذي يُعتبر البطل الثالث في قصة مُراد وهو: مقهى ريش.
فكما أصبحت هواتفنا التي تحمل عوالمنا الصغيرة وعوالم أخرى أكبر في الحجم والمضمون بضغطة زر تُثير الجموع وتجبرها على التراجع وتجعلها تنتفض ثم تهدأ، وتُنهي حملات وتبدأ أخرى، وتُسقِط حكومات وقوانين وشخصيات عامة، ليحل محلها ما تراه العيون من خلف الشاشات مُناسبًا.. ثقافات وأفكار ومفاهيم تسقط وتقوم في أقل أسبوع، كانت كُل تلك الثورات الفكرية والنفسية تعيش وتتحقق مُنذ مئات السنين حتى وإن تعددت وسائلها، في النهاية الغايات تتشابه.
ولكن السؤال هو: كيف؟ ما الذي كان يحدث قبل عصر التغريدات والمنشورات التي يُمكنها تدمير أو إحياء مفهوم أو شخصية أو فكرة ما في أقل من ثلاث دقائق؟
الإجابة هي: القهوة. أو بمعنًا آخر تويتر وفيس بوك العصر الماضي.
قبل أن نتعمق في تاريخ ونشأة مقهى ريش الفعلية، سنتعمق أولًا في بداية بطولته ونشأة فكرته وتحوله إلى رمز ثقافي واجتماعي وأدبي، والأهم من ذلك تحوله إلى رمز سياسي وثوري، وكأنه روح وجسد شاركوا كُل من خطت قدماه ذلك العالم الصغير الكبير التطورات والتقلبات الإنسانية والخارجية التي طرأت على مِصر بشكلٍ عام وشعبها بشكلٍ خاص.
وتأتي الهالة التي تُحيط بهذا المكان من القيمة التي وقعت على كُل زواره، فلك أن تتخيل قامات مثل نجيب محفوظ وطه حسين وعبد الرحمن الأبنودي وتوفيق الحكيم وأمل دُنقل وغيرهم تتناغم وتمتزج أفكارهم وأخبارهم وآرائهم وضحكاتهم ونكاتهم وأحزانهم وأفراحهم جميعها في مساحة واحدة ومكان واحد وهو مقهى ريش.
بل أن مسرحه اعتلاه كُل من محمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم في بداية مسيرتهما الفنية، وأدت فوقه فرقة نجيب الريحاني مسرحيتها “خلي بالك من إيملي”!
يُعتبر مقهى ريش حالة ثقافية وفكرية نادرة من نوعها ونادرًا ما تتكرر، ففي وقتنا الحالي مثلًا، يسهل تبادل الأفكار والآراء من أي مكانٍ في العالم وفي خلال ثوانٍ بفضل التكنولوجيا، ولكن الحياة التي خُلقت في مقهى ريش وغيره من المقاهي التي جمعت أبرز عقول مِصر والوطن العربي، لا يُمكن لأي جهاز الكتروني أو منصة الكترونية خلقها أو تقليدها.
فذلك الامتزاج الإنساني والشخصي في خضم تطور ثقافي وفكري ليس له مثيل على مر العصور ومع أجيال وصلت إلى قمة الهرم الثقافي والأدبي والفكري في فترات عصبية وحاسمة في التاريخ المصري والعربي، ذلك المزيج لا يمكن تكراره، لأن تلك الوصفة لن تكتمل بدون وجود كُل عُنصر من تلك العناصر النادرة.
فمثلًا كان الأديب العالمي نجيب محفوظ يعقد ندوة كُل يوم جمعة من كُل أسبوع في مطلع الستينيات مما أتاح لجيل جديد من الأدباء والمثقفين ترك بصمتهم في مقهى ريش الذي لم يبخل أبدًا بفتح ذراعيه لكُل مُحب للفن وللوطن.
والأهم من الدور الثقافي والفكري، كان لمقهى ريش دور سياسي كبير مُنذ الحرب العالمية الأولى وثورة ١٩١٩، فلقد كانت النُخبة المُجتمعة حول سعد زغلول والمقاومة للاحتلال من رواد مقهى ريش بل كان المقهى، كما يقول البعض، مقر للمطبعة السرية الخاصة بالثوار وداعمي الحركة ضد الاحتلال حيث كان يتم طبع المنشورات بواسطتها.
بالإضافة إلى أن مالك مقهى ريش الأخير مجدي ميخائيل أكد على وجود ممرات سرية تم اكتشافها أثناء ترميم المقهى في التسعينيات كان يستخدمها الثوار على حد قوله للهرب من مطاردات البوليس.
ويمكن القول أن ريش قد شهد ميلاد ثلاث ثورات وليست ثورة واحدة، ثورة ١٩١٩ وثورة ١٩٥٢، حيث كان يجتمع قادتها وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكذلك ثورة الخامس والعشرين من يناير.
ولكن لم يَكن فقط ريش مُلتقى داعمي الثورات ورواد الحركات الثورية، بل كان أيضًا يشهد على مؤامرات المُخبرين والجواسيس الذين كانوا على علمٍ تام بما يدور في ذلك المقهى.
ولكن ومع مرور الزمن ظل المقهى شاهد على العديد والعديد من الاجتماعات واللقاءات الأخرى السرية منها والعلنية للثوار والأفندية وكبار السياسيين التي عُقدت في فترات مُختلفة في ذلك الحرم: ريش.
تأسس مقهى ريش عام ١٩٠٨، على أنقاض قصر محمد علي في مدينة القاهرة في شارع طلعت حرب -سليمان باشا سابقًا- من قِبل الخواجة برنارد ستينبرغ وهو رجل أعمال نِمساوي، ثم انتقلت ملكيته للعديد من الأشخاص، جميعهم أجانب، حتى انتهى بين يدين مصريتين: مجدي ميخائيل عام ١٩٦٠ والذي ظل مالكه حتى وفاته عام ٢٠١٥ وانتقلت ملكيته لأولاده.
ولكن الذي أطلق عليه اسم ريش هو مالك سابق للمقهى يُدعى هنري بير أحد الرعايا الفرنسيين والذي أشترى المقهى عام ١٩١٤. يقول البعض أنه أطلق على المقهى اسم ريش ليُشابه أسماء أشهر المقاهي في باريس والبعض الآخر يقول أنه أطلق عليه ذلك الاسم تبسيطًا لاسم عائلته “ريسن”.
مازال مقهى ريش قائم حتى يومنا هذا.
كما كان مقهى ريش مُلتقى كُل تلك القامات والرموز، هو أيضًا مُلتقى أبطال قصة الكاتب أحمد مُراد. فيُصبح المقهى -كما كان يحدث في الواقع- شاهدًا على مُجتمع “اليد السوداء” وأسراره وتمثيلًا واقعيًا لكُل الحقائق وكذلك الأساطير التي مازالت تلوح فوق ذلك الصرح.
وفيه أيضًا تختمر الكثير من المشاعر الإنسانية والثورية، الإيجابية منها والسلبية، ما بين شخصيات القصة، وتختمر الكثير من الخطط والألاعيب التي ينسجها كيرة والجن معًا ضد الاحتلال الجائر.
يُعرض فيلم كيرة والجن حاليًا في السينمات. الفيلم من بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز وهند صبري وروبي وأحمد مالك والعديد من نجوم الصف الأول.