زقاق المدق عندما نقارن بين الفيلم والرواية نجد الكثير من الأمور التي تستدعي أن نركز كل تفكيرنا علي فهم أهم النقاط بين العملين، وهذا ما يبرر اجابة السؤال لماذا حصل نجيب محفوظ على نوبل ولم يحصل عليها غيره؟
لا أظن ياصديقي أنني أذيع سرًا عندما أقول لك أن التربع على عرش الأدب لا يحصل عليه الحكّاء الماهر فقط، مهما بلغت موهبته، الجوائز عادة لا تأتي إلا عندما ترتبط الحكاية بالتاريخ والجغرافيا والفلسفة وعمق الفكرة.
تتضافر تلك الأمور في نسيج قيّم يصعب فك خيوطه، ولو أنها جاءت في شكل معلومات مدرسية لفقدت قيمتها بالطبع.
هذا وباختصار شديد ما يميز نجيب محفوظ عن غيره، فهو أول أديب عربي يحصل على نوبل، ولد في 11 ديسمبر 1911 بحي الجمالية، ليكبر متشبعًا بكل ركن من أركان القاهرة القديمة، متتبعًا لتاريخها، ويدرس الفلسفة بالجامعة، لتكتمل ثلاثية النجاح، ويتبعها الإنتاج الغزير الذي أثقل موهبته، وفتح له أفاق جديدة.
يمكنك ثقل معرفتك عن الكاتب والأديب العظيم والتعرف علي البدايات والنهايات أعوام نجيب محفوظ وهنا نعرض أهم أعماله زقاق المدق ومن نجاح في رواية إلي نجاح أكبر في فيلم حقق العديد من المشاهدات.
القراءة لـ محفوظ في أفضل روايات نجيب محفوظ واجب إذا كنت كاتب أو ممثل أو تعمل عمومًا بحقل الأدب والفن، أما لو أنك قارئ هاوي فلن تنضج قراءاتك قبل أن تقرأ له، يختلف محفوظ عن أغلب الكتّاب الجماهيريين في نقطة هامة وهي أن لغته ليست بسيطة.
في البداية ستبدو صعبة، مع الوقت ستعتاد عليها، وترتقي معها، ستستعذبها حتى وإن كنت ستلجأ للقاموس لفهم بعض الكلمات.
زقاق المدق طريقك الأول لدخول عالم محفوظ، فلازلت أتذكر عندما اخترت أن أبدأ معه بمراهقتي بـ “حب تحت المطر”، خدعني العنوان وفشلت في قراءتها، فنُصحت بأن أبدأ معه من زقاق المدق، لأنها تبدو أبسط رواياته.
تحكي الرواية قصة زقاق المدق الموجود بمنطقة الحسين، تتناوله بوصف الدقيق، حيث يصف الجدران والأرضيات والمحلات والأشخاص المهمشين وملابسهم وتصرفاتهم.
محل البسبوسة والقهوة والعمة والجلباب، تتطرق الرواية لشخصية حميدة الفتاة شديدة الجمال، التي تربيها صديقة والدتها، بعد وفاتها، فهي دائما متمردة رافضة لعيشة الزقاق القاسية، وتتمنى الخروج منه بأي طريقة، ولكنها تستجيب لحب عباس الحلو وتتم الخطبة.
ويدفعه حبه الشديد لها للسفر ليتحصل على المال الكافي للزواج، للأسف تقابل حميدة فرج القواد وتستسلم له لتخرج من الزقاق.
جدير بالذكر أن الرواية تم تحويلها لفيلم مكسيكي بالتسعينات، بطولة سلمى حايك، وأثنى عليه نجيب محفوظ، وآخر إيراني تدور أحداثه بـ طهران.
صدرت الرواية أول مرة بعام 1947، كتبها محفوظ بعمر السادسة والثلاثين، أعادت الشروق نشر الطبعة الأولى منها بعام 2006، وفي العام 1963 تم تحويله لفيلم من إخراج حسن الإمام.
عندما تعرف أن فيلم زقاق المدق كان سيسمى حميدة ستعرف الفرق الجوهري بينهما، فالرواية بطلها الزقاق، والفيلم بطلته حميدة، خرج الفيلم تمامًا عن اهتمام محفوظ بـ الزقاق كمكان وفترة الاحتلال الإنجليزي بالأربعينات كتاريخ، ليهتم بالبطلة حميدة التي جسدتها الفنانة شادية.
سنذكر هنا اقتباس من الرواية هو مطلع الرواية، والتي توضح تعانق الجغرافيا مع التاريخ، لتحمل بشرًا وأماكن يصفهم لنا نجيب محفوظ بإسهاب ترى فيه الأوصاف تكاد تتجسد أمامك!
“تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يومًا في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري، أي قاهرة أعني؟ الفاطمية؟ المماليك؟ السلاطين؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس، كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية.
تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة “كرشة” تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم، الذي صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد.”
الرواية تقدم لنا شخصية حميدة فائقة الجمال، المتمردة الكارهة للفقر والزقاق، انتهازية، دنيئة النفس، اختارت أن تبيع كل شيء حتى والدتها التي ربتها، تبيع شرفها بمحض إرادتها، وبكامل رغبتها، لتحصل على الغنى والترف، وتعيش بوسط القاهرة بعيد عن الزقاق.
وكالعادة أشفق صناع فيلم زقاق المدق على حميدة الجميلة، أن تحتمل كراهية الجمهور وبغضهم، فيكره الناس الفيلم والأبطال، فقدم لنا صناع الفيلم قصة جديدة، لفتاة ساذجة، طموحة نعم ولكن الحب هو الذي أوقعها، فقد تلاعب القواد بمشاعرها، واستدرجها حتى قدمها وجبة شهية لجنود الاحتلال الإنجليزي.
الرواية تحمل خط درامي معين بوصلته عباس الحلو، وليست حميدة، ذلك الشاب الساذج المحب الذي يدفع حياته ثمنًا لحبه وسذاجته وهذا الخط هو الاتجاه الواقعي الذي سلكه محفوظ في كتاباته.
أما فيلم زقاق المدق فقد اعتمد على رمزيات مختلفة تمامًا، فاختاروا أن تموت “حميدة” كنوع من التطهر من ذنبها، وأن تدفع حياتها ثمن ضياع شرفها، وقد قيل أن شادية ترمز لمصر وعباس الحلو يمثل الشباب الثوار، والإنجليز هم من قتلوا حميدة.
لعلنا نلاحظ أن نجيب محفوظ لم يجعل حميدة تمارس البغاء فحسب، بل ركز أنها باعت نفسها لجنود الاحتلال الإنجليزي ليزيد من وضاعة الأمر، ويوضح أن الاحتلال يسلب من يحتله شرفه والوسيط هم عملاء الاحتلال.
رغم أن فيلم زقاق المدق جعل جنود المحتل من أهم رواد الملهى الذي تعمل به حميدة، ويظهر مشهد بالفيلم سمير صبري يعلم البغايا، اللغة الإنجليزية أو بالأحرى يعلمهم الكلمات التي ستحتاجها أثناء عقدها الاتفاق مع الجنود الإنجليز -يُذكر أن الدور كُلف به مختص باللغة الإنجليزية.
لكنه لم يحضر وتصادف وجود سمير صبري بالأستوديو وهو يجيد اللغة- ومع هذا لم يصلنا المعنى الواضح الذي قدمه محفوظ بالرواية.
5- أفرد نجيب محفوظ فصل كامل للانتخابات، ليوضح لنا لعبة السياسة، وكيف أنها لا تقع ضمن دائة اهتمام البسطاء، فيرفض صاحب محل البسبوسة وضع صورة المرشح لأنه باب رزق فيوضحون له أن وضع الصورة قد يجعل المرشح يشتري كل البسبوسة الموجودة بالمحل!
وبرمزية فريدة من نوعها يجعل الانتخابات هي من تأتي بالقواد لـ الزقاق لتتعرف عليه حميدة، ظهر هذا الفصل بمشهد بالفيلم دون أي إشارة لتلك الدلالات.
يدور العمل السينمائي في فُلك حميدة أو شادية، وطبعًا صفات شادية تجعلها قادرة على توصيل معاني كثيرة من الجمال والدلال والتفرد، و القدرة على سلب قلب البطل، ولنجيب محفوظ وشادية قصة كبيرة معًا، جمعهم الصداقة والفن والثقافة.
أهدى لها محفوظ نسخ موقعة من أعماله، وقامت هي بدور البطولة باحترافية شديدة للعديد منها، حتى يأتي دورها بـ اللص والكلاب الذي قال عنه محفوظ أنه لم يتخيل أن يقوم به أحد غيرها.
يشاركها البطولة صلاح قابيل بدور عباس الحلو وكان ذلك عمله الأول، ويوسف شعبان قام باقتدار شديد بدور القواد، بالاشتراك مع سامية جمال التي قامت بدور فتاة مأساتها هي مأساة حميدة.
ولا يمكن أن تُذكر شادية دون الحديث عن الموسيقى! والموسيقى التصويرية للفيلم كانت للموسيقار علي اسماعيل، وأغنية (نو ياجوني نو) غناء شادية وألحان محمد الموجي، كلمات حسين السيد.
وعند بحثك عن معلومات عن نجيب محفوظ تجد أنه تم وصف أدب محفوظ بأنه قائم على الحارة المصرية وتفاصيلها، وهنا برواية زقاق المدق وهو الموجود بالفعل بمنطقة بالحسين ستظن بالبداية أن الزقاق هو البطل.
ويتضح لك بالنهاية أنه يدور في حواري وأزقة القلوب، وأروقة النفس البشرية، الإنسان هو الحارة التي لم يصل إليها أحد بعد.