يأخذنا إبراهيم عيسي في رحلة لفترة حكم سيدنا عمر بن الخطاب حتى مقتل سيدنا علي بن أبي طالب، الصراعات ، طرق الحكم ، الخلافة و التناقضات التي استوطنت هذه الفترة تحديدًا
احصل علي نسخةرحلة الدم هي الجزء الأول لسلسلة “القتلة الأوائل” الصادرة عن دار الكرمة.
تدور أحداث الرواية من فترة حكم سيدنا “عمر بن الخطاب” تحديدًا فتح مصر علي يد “عمرو بن العاص” و حتى مقتل سيدنا “علي بن أبي طالب”. حيث يأخذنا الكاتب إبراهيم عيسي في رحلة حول هذه الفترة، و الصراعات التي حدثت بها، و طرق الحكم و الخلافة و التناقضات التي استوطنت هذه الفترة تحديدًا، وفي هذه الرواية لا يتحدث الكاتب عن الخلفاء بشكل أو من منظور ديني، لأن العالم كله يعلم من هم الخلفاء و من هم في الإسلام و إنما يتحدث عنهم من منظور سياسي مختلف، كمثال على ذلك : نظرتهم للسلطة، المال، الحكم، الإيمان، للكفر، الثورة، العدل و حتي نظرتهم لبعضهم البعض، من منطلق سياسي بحت حيث أستبعد في هذه الرواية فكرة الصحابة كأتباع لسيدنا محمد عليه الصلاة و السلام، وإنما كأشخاص سياسيين.
ولصدق معلومات الرواية و منعًا للجدل، حيث أنه جميع أحداثها و شخصياتها حقيقيين وليسوا من وحي خيال المؤلف، فقد ذكر الكاتب “إبراهيم عيسي” في الصفحة الأولى من الرواية تنويه بكم المراجع التاريخية التي أتي بهذه المعلومات الحقيقية منها.
تبدأ الرواية بترقب “عبدالرحمن بن مرجم” لسيدنا “علي ابن ابي طالب” عند خروجه لتأدية صلاة الفجر، يظل يترقبه حتى يحقق مبتغاه في قتله.
ثم تأخذنا الرواية عشرون عاماً ما قبل هذه الواقعة، لنتعرف علي “عبدالرحمن بن مرجم” و انضمامه لجيوش “عمرو بن العاص” في مصر كمُحفظ القرآن للجنود. ثم تأخذنا الرواية معها لفترة فتح مصر و كيف تم فتح مصر بأقل الخسائر.يتم مبايعة “عثمان” بعد مقتل “عمر بن الخطاب” ويتم عزل “عمرو بن العاص” و يتولى “عبدالله ابن ابي السرح” حكم مصر.
تنتقل أحداث الرواية فيما بعد إلي المدينة، ونتعرف فيها على زوجة سيدنا “عثمان” التي كانت تُسمي “نائلة” و صداقتها بالسيدة “عائشة” التي تصل إلي مراحل مختلفة من حب و تعاطف و أيضًا كراهية…
ونتعرف أيضًا على طريقة حكم سيدنا “عثمان” الذي كان يعتمد علي تعيين أهله حيث كانوا بمثابة أهل الثقة بالنسبة إليه، و لذلك واجه البعض الاعتراضات على أسلوب الحكم، لذا أنتقل البعض من مصر إلي المدينة للإحتجاج علي أسلوب و طريقة الخليفة في الحكم.
يلجأ سيدنا “عثمان” بمشورة سيدنا “علي” الذي ينصحه وقتها بالتوبة و سماع رأي الناس و عزل “مروان بن الحكم” و بالفعل يتخذ سيدنا “عثمان” برأي سيدنا “علي” و يعلن ذلك للشعب، بعد فترة يقوم “مروان بن الحكم” بفرض سيطرته على الناس و تعنيفهم، و لا يحدث أي مستجدات في طرق حكم الخليفة، مما أدى إلى انزعاج الشعب و حصارهم لبيت الخليفة لمدة أربعين يوم حُرم فيهم من الخروج من المنزل حتى لغرض الصلاة…وبشدة الحصار يقم بالتنازُل عن الخلافة….
تأتي الأخبار “معاوية” عن ما حدث للخليفة، وكيف تم أقتحام منزله و قتله و ترك جثته الشريفة أيام دون أن يقترب منها أحد، يأتي “معاوية” بجيشه من الشام، و يدفن سيدنا “عثمان” بمقابر اليهود.
يتم بعدها مبايعة “علي بن أبي طالب” ليكون الخليفة و تنتهي الرواية في أحداثها الكبيرة المليئة بالوقائع و التي لها جزء آخر بعنوان “حروب الرحماء” تستكمل ما حدث في هذه الفترة من تولي سيدنا “علي” الحكم واعتباره الخليفة و حتي مشهد قتلة التي بدأت بها هذه الرواية الشيقة.
«رحلة الدم» هي الرواية الأولى من سلسلة روايات تسمى «القتلة الأوائل» يناقش فيها عيسى أحداث الفتنة الكبرى التي ساهمت في تشكيل الدين الإسلامي بشكله وفرقه المعروفة حاليًا – وأيضًا فرقه تلك التي اندثرت – بشكل كبير. الكتاب ليس الأول في الحديث عن تلك الفترة فهي قُتلت بحثًا من الكثيرين بمختلف طوائفهم وكل طائفة تملك رواية خاصة بها للأحداث، لكنه في الأغلب الكتاب الأول الذي يروي ما حدث على هيئة رواية حافلة بالمشاهدة الدرامية والأحداث المتسارعة فيشكل صورة حية لما حدث لا نجدها في الكتب التاريخية الجافة بطبعها.
تناقش الرواية بشكل رئيسي فترة حكم عثمان بن عفان، والأحداث الجسام التي جرت فيها والتي انتهت بمقتل الخليفة الراشد الثالث وكانت بداية عصر الفتنة الكبرى والحروب الأهلية بين المسلمين بعضهم البعض. هذا العصر الذي انتهى بإحكام الأمويين قبضتهم على الحكم وانشقاق المسلمين لفرق متناحرة تتقاتل حتى اليوم!
بالرغم أن هذا الكتاب في النهاية رواية وليس كتاب تاريخ، وهدف هذا المقال هو عرض الرواية وليس تحليلها تاريخيًا، إلا أن الرواية في النهاية تشتبك مع أحداث جسام من تاريخنا ولا يمكن إغفال الحديث عن مدى حقيقة وصحة أحداثها أثناء عرضها – ولو بصورة موجزة – حتى لو لم يكن هذا هدف المقال الأساسي.
في المجمل يقدم الكاتب رواية مقبولة عقليًا ومنطقية لحد كبير لحقيقة ما حدث. لا يتبنى الكاتب الرواية السلفية التي لا تغالط الحاكم أبدًا مهما فعل هذا الحاكم – يدافع البعض إلى الآن عن يزيد بن معاوية الذي تم في عهده وعلى يد أحد ولاته قتل الحسين والتمثيل بجثته! فما بالك لو أن هذا الحاكم هو عثمان بن عفان الخليفة الراشد ذو المناقب والمآثر التي لا يستطيع أن ينكرها أحد الخصوم قبل الأصدقاء، ورغم أن المصادر التي اعتمد عليها الكاتب هي ذات المصادر التي يعتمدها أصحاب الرواية السلفية، ورغم أن الكثير من أحداث الرواية التي ستثير الجدل مثل ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر، واشتراك محمد بن أبي بكر الصديق في حصار بيت عثمان بل إنه كان حاضرًا قبل مقتل عثمان مباشرة* قد أوردها الكثير من متبني الرؤية السلفية نذكر منهم أحد أهمهم وأشهرهم في عصرنا الحديث راغب السرجاني**. لكن دومًا كان إيراد تلك الأحداث يكون بهدف تبريرها ومحاولة تلفيق أسباب في الأغلب لا يتقبلها العقل لسبب وقوع هذه الأحداث، و القول بأن معظم هذه الأحداث كانت بسبب حسن النية الزائد عن الحد من الجميع، ففي تلك الرؤية لا أحد يخطأ والجميع ملائكة. وهذا ما لا يفعله عيسى فهو يؤكد في سطوره ضمنيًا أنه يتكلم عن بشر يخطئون.
أيضًا لا يتحدث عيسى عن شخصية ابن سبأ وهي التي تتكرر بكثرة بين أنصار الرؤية السابقة. وهي شخصية يعزا إليها إشعال الفتنة بين المسلمين. شخصية مختلف على وجودها تاريخيًا، البعض يؤمن بها وبدورها الكبير في إزكاء نيران الفتنة، والبعض الآخر يقول إنها كانت موجودة لكن بالضرورة لم يكن لها كل هذا الدور الكبير ففي النهاية هو فرد واحد لا يمكنه أن يحرك كل هذه الأحداث الجسام ويخطط لكل شيء، وآخرون ينفون وجودها من الأساس.
إذن لا يتبنى عيسى الرواية السابقة لكنه لا يتبنى الرؤية المضادة أيضًا. فعلى طرف النقيض من الرواية السلفية يملك الشيعة روايتهم الخاصة، وهي تلك الرواية التي تلصق الكثير من النقائص بعثمان – وعمر وأبي بكر الصديق من قبله – وتزعم تلك الرواية أن عثمان كان حاكمًا ظالمًا وله الكثير من المثالب، ووصل الأمر لتكفيره عند بعض أنصار هذه الرواية. ورغم أن عيسى يتهم بالتشيع من قبل خصومه الإسلاميين عادة، وبالتأكيد ستستخدم تلك الرواية كدليل إضافي من قبلهم للتأكيد على تشيعه، إلا أنه لا يقر الرواية الشيعية، فكما سيأتي لاحقًا رسم عيسى صورة مميزة لعثمان تدفعك للتعاطف معه والنقمة على قاتليه بل إن الأحداث التي رواها أقرب بكثير للرواية السنية.
إذن سرد عيسى رواية يمكننا أن نصفها بالوسطية بين الروايات المختلفة التي نملك حاليًا عن هذه الأحداث الدامية، رواية تذكر أخطاء الخليفة الثالث واختلاف بعض الصحابة مع سياساته لكنها لا تغفل فضائله، تسرد أسبابًا حقيقية للثورة عليه، لكنها تتضمن أيضًا ذكر أن الكثير من أصحاب الأهواء والطامعين في الحكم والذين طمس الله على قلوبهم قد شاركوا في تلك الثورة على الخليفة وقتلوه وهو يقرأ قرآنه وفتحوا أبواب الفتن على الناس، فلم تصبح ثورة من أجل تقويم عثمان، بل سفكوا دماء بغير حق وقتلوا أحد أصحاب الرسول، وفيما بعد سيقتلون خليفته عليًا أيضًا.
رواية ستثير حنق الكثير من أصحاب الرؤى الأخرى فهو يتحدث عن خلافات بين الصحابة وأخطاء لبعضهم وعدم رضاهم عن سياسات الحكم بل ومشاركة بعضهم في الفتنة ومحاصرة دار عثمان، لكنه أيضًا يذكر أنهم تبرءوا من قتله، فعلي يتبرأ من المحاصرين له والسيدة عائشة تخرج للحج في مكة قبل مقتله، وأبناء الصحابة يقفون على بابه ليدافعوا عنه.
لا ينجرف عيسى في النيل من عثمان، لكنه يظهره في صورة الحاكم الذي كان يبغي العدل حقًا، لكن بطانة حكمه خذلته وأشعلت نيران المعارضة له، ويبين عيسى أن أخطاء سياسات عثمان كانت ناتجة عن ثقته فمن لا يستحق الثقة ونتيجة لعدم خبرته السياسية فهو ليس عمر الحازم الصارم، ولا أبا بكر الذي أنقذ الدولة الوليدة في حروب الردة.
بنى الكاتب روايته تلك اعتمادًا على العديد من كتب التاريخ يذكرها في بداية كتابه وهم خمسة عشر كتابًا، أحد عشر كتابًا منهم ينتمون للعصور التاريخية السابقة وللمؤرخين الأوائل في تاريخنا الإسلامي مثل: كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير و«تاريخ الرسل والملوك» للطبري. بينما الأربعة كتب الباقية تنتمي للعصر الحديث وتحمل أسماء مؤلفين معاصرين مثل كتاب «تاريخ القرآن» لعبد الصبور شاهين. إذن اعتمد عيسى على المؤلفات التراثية بشكل أساسي لكتابة روايته. مؤلفي تلك الكتب التراثية الأحد عشر جميعهم يعتبرهم أهل السنة والجماعة علماء أفاضل وكتبهم من أهم مصادر التأريخ للتاريخ الإسلامي، ولكن ليست كل الأحداث الواردة في تلك الكتب مثبتة، فمثلاً الطبري اهتم في كتابه بتجميع كل الأخبار التي وردت له دون أن يحاول أن يثبتها أو ينفيها. يقدم إذن الكاتب في بداية روايته الأدوات التي يمكن أن يستخدمها من يريد التدقيق في صحة الرواية كأنه يحفز القارئ على تتبع حقيقة ما سرده.
استخدم عيسى حيلة جيدة لإيراد الروايات الضعيفة عن تلك الفترة، فمثلاً المقولة التي تنسب للسيدة عائشة «اقتلوا نعثلا فقد كفر»، وهي الرواية التي ينفيها الكثيرون، يذكرها عيسى في روايته على هيئة خدعة من أحد الخارجين على عثمان في مصر، والذي يزعم أن عائشة ترسل الرسائل تحرضهم على الخروج على عثمان، لكن في صفحات لاحقة من الرواية تنفي السيدة عائشة أنها تفوهت بهذه المقولة رغم غضبها على سياسات عثمان.
يشتبك إبراهيم عيسى مع أحداث الفتنة الكبرى، أو كما ذُكر على غلاف الكتاب «يتناول المسكوت عنه في تاريخنا الإسلامي». الأحداث التي يخشي الكثيرون الحديث عنها نظرًا لأن أبطالها هم صحابة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، بينما تفتن تلك الأحداث آخرين فتدفعهم دفعًا للتنقيب في كتب التاريخ للوقوف على حقيقة ما حدث و يسرد لنا حقيقة ما حدث – من وجهة نظره التي استخلصها من كتب التاريخ – في تلك الفترة الشائكة والشائقة ويصحبنا عبر صفحات روايته في رحلة عبر التاريخ لكنها رحلة تحتاج لجرأة وشجاعة فهي تدمي القلوب وتكد النفوس
تناقش الرواية بشكل رئيسي فترة حكم عثمان بن عفان، والأحداث الجسام التي جرت فيها والتي انتهت بمقتل الخليفة الراشد الثالث وكانت بداية عصر الفتنة الكبرى والحروب الأهلية بين المسلمين بعضهم البعض. هذا العصر الذي انتهى بإحكام الأمويين قبضتهم على الحكم وانشقاق المسلمين لفرق متناحرة تتقاتل حتى اليوم!
بدأ الكاتب روايته بـ «هي لله» فهل هي لله فعلا؟ القارئ وحده هو من يستطيع أن يحكم!
اختيار مشهدي البداية والنهاية كان موفقًا جدًا من الكاتب، المشهدان يكملان بعضهما البعض بطريقة بارعة، جاءت البداية بمشهد مقتل الإمام علي على يد ابن الملجم الذي يترصده وهو ذاهب لصلاة الفجر وينادي أهل الكوفة ليوقظهم للصلاة فيباغت عليًا بسيف مسموم ويقتله. أما مشهد النهاية جاء وعبد الرحمن بن الملجم يبايع علي للخلافة فكان كالآتي:
«رفع بن أبي طالب عينيه نحوه، فرأى ابن الملجم هذه النظرة من علي. هل رآها غيره؟ هل لاحظها أحدهم؟ هل فهمها واحد منهم؟ هل سمعوا ما سمعه من علي أم أنه تخيله أو توهمه؟ أكان علي وقد رماه بتلك النظرة التي فلقته يردد ويتمتم ويدمدم: إنا لله وإنا إليه راجعون».
بعد مشهد البداية يعود الكاتب عشرين عامًا للوراء لفتح مصر ويتتبع سيرة ابن الملجم وبداياته التي جعلها الكاتب مع فتح مصر، فهي كانت بداية خروج ابن الملجم من قوقعته واشتراكه في الأحداث الجسام. تستمر تلك الفترة ما يقارب مئتين صفحة،هى فترة عمر بن الخطاب التي لم تشهد اضطرابات وكانت فترة استقرار وتوسع للإمبراطورية الإسلامية الناشئة – يختلف تمامًا عن الرتم فيما يليها من صفحات، كما أن ارتباط أحداثها بالأحداث التالية ثانوي.
لكن عيسى يستغل هذا الجزء في بناء شخصياته المشاركة في أحداث الفتنة التالية – وخاصة شخصيات الخارجين على عثمان من أهل مصر أو للدقة من المسلمين القاطنين في مصر– فيرسم عيسى تلك الشخصيات بتأنٍّ ويقوم بوصف خلفياتهم ودوافعهم التي تحركهم وكيف يفكرون.إذا كان هذا الجزء هو الأرض التي بذر فيها عيسى شخصياته فلا نستغرب أفعالها فيما بعد. أجاد عيسى رسم شخصيات هذا الجزء وخاصة شخصية المقوقس حاكم مصر، صالح القبطي أحد كبار مستشارين عمرو بن العاص، البطريرك بينامين، أبومريم أحد رجال البطريرك بينامين، وبالطبع عمرو بن العاص داهية العرب الذي سيطر على مصر بالسياسة وليس بالقتال. شخصية عمرو بن العاص جاءت مميزة للغاية، سياسي بارع، قائد محنك داهية، وحاكم ذكي، يمكنك أن تقع في حبه بسهولة.
لم يقدم إذًا عيسى شخصيات مسطحة أخيارًا أو أشرارًا، لكن قدم شخصيات رمادية بدرجاته المختلفة. فالمقوقس الذي يسوم الأقباط العذاب له مشاهد درامية رائعة يحدث فيها نفسه ويتساءل لماذا يكرهه الأقباط هكذا، يلعن فيها هرقل وقواده والمصريين. هناك أيضًا مشاهد درامية مميزة بين عمرو بن العاص وابن الملجم، وصالح القبطي وابن العديس وابن الملجم، وهي التي يرسم فيها عيسى شخصية ابن الملجم الجامدة التي لا تفقه القرآن الذي تقرؤه، لكنه يسارع بالتكفير والتجرؤ على صحابة الرسول. لا يفهم أفعال عمرو بن العاص الذكية، مندفع أحمق، هكذا بنى الكاتب شخصية ابن الملجم وهي الشخصية التي أرادها معبرة عن التكفيريين في كل عصر.
ينتهي الجزء السابق بمقتل عمر بن الخطاب، ومع نهايته ستتسارع الأحداث وتصبح أكثر إثارة، حتى أن القارئ مع الصفحة الأخيرة سيتمنى لو أن الرواية امتدت لأكثر من ألف صفحة وليس سبعمائة فقط، وسيتمنى لو أن عيسى لم يتوقف عند بيعة علي، وبالتأكيد سينتظر على أحر من جمر الأجزاء الكاملة من سلسلة القتلة الأوائل. ويمكننا القول إن البداية الحقيقية للرواية كانت بعد هذا الجزء وكل ما سبق كان تمهيدًا، فمن تلك النقطة يببدأ عيسى اشتباكه مع بداية أحداث الفتنة.
تقسم الشخصيات التي وردت في الجزء الثاني من الرواية لثلاثة :
القسم الأول هو الخليفة عثمان بن عفان ومناصروه وعماله على الولايات. رسم عيسى شخصية الخليفة بطريقة ممتازة، سيدفعك للغضب من عثمان في البداية لكنه سيجعلك تبكي عليه مع مرور الأحداث، سيدمي قلبك على الخليفة الذي شعر بخذلان أصحابه له واستغل أقاربه طيبة قلبه فأزكوا نيران الفتنة عليه. الخليفة الذي يرفق بربيبه محمد بن أبي حذيفة ويرسل له الأموال فيبث الآخر سمومه ويؤلب الناس عليه طمعًا في إمارة لم يعطها له عثمان. ومن المشاهد المؤثرة لعثمان عندما يمنعه الخارجون عليه من الماء فيتحدث معهم مذكرًا إياهم بفضائله فيقول:
«أنشدكم بالله أن تجيبوني، هل تعرفون أننا كنا في عهد رسول الله نشتري الماء من بئر رومة اليهودي؟، وكان يبيعنا الماء بغلاء سعره وبأمره وهواه، فعز على فقرائنا ومهاجرينا ثمنه. فقال النبي: من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله بها الجنة؟، فاشتريتها بمالي بعشرين ألفًا سبيلاً لله يشرب منها المسلمون الرائح والغادي ويسقي الفقير والغني؟.
ثم صمت عثمان وقد تكاثفت الدموع في حبال صوته: وأنتم تمنعون عني الآن شربة ماء منها».
بالإضافة لشخصية ابن عفان، ينجح أيضًا عيسى في رسم بطانة الحكم المحيطة بالخليفة، فهناك مروان بن الحكم يتصرف بحماقة تؤجج النيران، ونائلة زوجة الخليفة الحكيمة كانت خير ناصح له، وهناك أيضًا معاوية بن أبي سفيان الذي لم يظهر إلا في بضعة صفحات لكنها كانت كافية لعيسى ليبين دهاءه وذكاءه السياسي فيها، وعبد الله بن أبي السرح حاكم مصر الذي كان مهّد للتخطيط لعزل عثمان.
القسم الثاني من شخصيات الرواية هم الخارجون عن عثمان، وهم يختلفون فيما بينهم، منهم الذي يعرف أن خلافه مع الخليفة سياسي مثل ابن العديس ومالك الأشتر الذين يعترفون لعثمان بفضله في المشهد التالي وهم يحصارونه:
«تنهد ابن عديس وكان السؤال قد أعياه: نصبر يا أشتر، لعله يرجع عن ظلمه لنا ولنفسه فيخلع قميص الحكم.
أطرق الأشتر: وهل تنتظر منه أوبة أو رجعة؟
عاد ابن عديس وهو يتعطش لرية رأي من مالك الأشتر: بل أنتظر من الله الفرج للكرب، فهذا عثمان من نحاصره وليس عييا من بني أمية.
وافقه مالك الأشتر: بل عثمان صاحب النبي وصاحب اليد والفضل».
ومنهم الذي انجرف في كراهية عثمان واستمع للمحرضين مثل محمد بن أبي بكر، وله مشهد عظيم عندما يدخل على عثمان كي يقتله فيحدثه عثمان بلين ويذكره بأبيه ويقول له لا تجعلني أقول لأبيك أن محمدًا هو من قتلني، فيعود ابن أبي بكر لرشده ويهرول خارجًا من حجرة الخليفة. ومنهم الذي ختم الله على قلبه مثل عمرو بن الحمق وابن الملجم و محمد بن أبي حذيفة، وأخيرًا منهم صحابة كبار مثل طلحة، وعمار بن ياسر الذي يرضى بالثورة على عثمان لكنه لا يشارك فيها.
القسم الأخير هم الصحابة الذين لم يرضوا بسياسة عثمان ولكنهم لم يخرجوا عليه مثل الإمام علي والذي أجاد عيسى كتابته، فهو الزاهد في الحكم، لا يرضى عن أفعال عثمان فيكون خير الناصح لصاحبه، ثم يتبرأ من قتلته في مشهد عظيم للغاية عندما يذهب لخليفة رسول الله بالماء بعد أن منعه المحاصرون له منه، لكن الخارجين على عثمان يمنعون عليًّا من إمداده بالماء فيتبرأ علي منهم في المشهد التالي:
«لكن صخبهم تآكل وصمتهم ارتفع حين رأوا عليًّا يفلت ذراعيه من أكف من حوله ويمسك بعمامته فيخلعها عن رأسه ثم يرفعها عاليًا بذراعه ثم يرميها بأقوى ما يملك من عزيمة فوق سور دار عثمان وهو يناديه:
يا عثمان اشهد أنني جئت وحاولت وأنني بريء منهم.
كان عثمان يسمعه في الداخل وهو يبكي، ومروان يشكك بلسانه وبإيماءاته وبإشاحاته فيما فعله علي وقاله، بينما نائلة مبهوتة وقد رأت النهاية تبدأ حين كرر علي صيحته المستبرئة:
يا عثمان، أنا بريء منهم».
الرواية مليئة بشخصيات ثرية أخرى غير السابق ذكرها، ولكن لا يسعني المقال للكتابة عنها كلها. أيضًا الرواية مليئة بمشاهد درامية أخرى محبوكة بطريقة مميزة، فمثلاً هناك مشهد ذهاب علي لأحجار الزيت واعتزاله للناس الذين ينادون به خليفة بعد مقتل عثمان، فهو الآن زاهد كل الزهد في تلك الخلافة، وعند أحجار الزيت يتذكر علي ما حدث في البيعات السابقة وأن الناس اختاروا أبا بكر مرة وعثمان مرة ثانية فيناجي نفسه قائلا:
«لكنهم قد اختاروا غيره من قبل، فلماذا هذه المرة؟ ولكن أليست هذه المرة الخطرة الأخطر حين يشتد الشد والجذب وينشف الضلع في القلب؟، ألا يكون الأمر في حاجة إلى من يفلق الصبح بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام؟ ومن له ذو الفقار غيرك يا علي؟
في المجمل يقدم الكاتب رواية مقبولة عقليًا ومنطقية لحد كبير لحقيقة ما حدث. لا يتبنى الكاتب الرواية السلفية التي لا تغالط الحاكم أبدًا مهما فعل هذا الحاكم – يدافع البعض إلى الآن عن يزيد بن معاوية الذي تم في عهده وعلى يد أحد ولاته قتل الحسين والتمثيل بجثته! فما بالك لو أن هذا الحاكم هو عثمان بن عفان الخليفة الراشد ذو المناقب والمآثر التي لا يستطيع أن ينكرها أحد الخصوم قبل الأصدقاء، ورغم أن المصادر التي اعتمد عليها الكاتب هي ذات المصادر التي يعتمدها أصحاب الرواية السلفية، ورغم أن الكثير من أحداث الرواية التي ستثير الجدل مثل ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر، واشتراك محمد بن أبي بكر الصديق في حصار بيت عثمان بل إنه كان حاضرًا قبل مقتل عثمان مباشرة* قد أوردها الكثير من متبني الرؤية السلفية نذكر منهم أحد أهمهم وأشهرهم في عصرنا الحديث راغب السرجاني**. لكن دومًا كان إيراد تلك الأحداث يكون بهدف تبريرها ومحاولة تلفيق أسباب في الأغلب لا يتقبلها العقل لسبب وقوع هذه الأحداث، و القول بأن معظم هذه الأحداث كانت بسبب حسن النية الزائد عن الحد من الجميع، ففي تلك الرؤية لا أحد يخطأ والجميع ملائكة. وهذا ما لا يفعله عيسى فهو يؤكد في سطوره ضمنيًا أنه يتكلم عن بشر يخطئون.
أيضًا لا يتحدث عيسى عن شخصية ابن سبأ وهي التي تتكرر بكثرة بين أنصار الرؤية السابقة. وهي شخصية يعزا إليها إشعال الفتنة بين المسلمين. شخصية مختلف على وجودها تاريخيًا، البعض يؤمن بها وبدورها الكبير في إزكاء نيران الفتنة، والبعض الآخر يقول إنها كانت موجودة لكن بالضرورة لم يكن لها كل هذا الدور الكبير ففي النهاية هو فرد واحد لا يمكنه أن يحرك كل هذه الأحداث الجسام ويخطط لكل شيء، وآخرون ينفون وجودها من الأساس
إذن لا يتبنى عيسى الرواية السابقة لكنه لا يتبنى الرؤية المضادة أيضًا. فعلى طرف النقيض من الرواية السلفية يملك الشيعة روايتهم الخاصة، وهي تلك الرواية التي تلصق الكثير من النقائص بعثمان – وعمر وأبي بكر الصديق من قبله – وتزعم تلك الرواية أن عثمان كان حاكمًا ظالمًا وله الكثير من المثالب، ووصل الأمر لتكفيره عند بعض أنصار هذه الرواية. ورغم أن عيسى يتهم بالتشيع من قبل خصومه الإسلاميين عادة، وبالتأكيد ستستخدم تلك الرواية كدليل إضافي من قبلهم للتأكيد على تشيعه، إلا أنه لا يقر الرواية الشيعية، فكما سيأتي لاحقًا رسم عيسى صورة مميزة لعثمان تدفعك للتعاطف معه والنقمة على قاتليه بل إن الأحداث التي رواها أقرب بكثير للرواية السنية.
إذن سرد عيسى رواية يمكننا أن نصفها بالوسطية بين الروايات المختلفة التي نملك حاليًا عن هذه الأحداث الدامية، رواية تذكر أخطاء الخليفة الثالث واختلاف بعض الصحابة مع سياساته لكنها لا تغفل فضائله، تسرد أسبابًا حقيقية للثورة عليه، لكنها تتضمن أيضًا ذكر أن الكثير من أصحاب الأهواء والطامعين في الحكم والذين طمس الله على قلوبهم قد شاركوا في تلك الثورة على الخليفة وقتلوه وهو يقرأ قرآنه وفتحوا أبواب الفتن على الناس، فلم تصبح ثورة من أجل تقويم عثمان، بل سفكوا دماء بغير حق وقتلوا أحد أصحاب الرسول، وفيما بعد سيقتلون خليفته عليًا أيضًا.
لا ينجرف عيسى في النيل من عثمان، لكنه يظهره في صورة الحاكم الذي كان يبغي العدل يبين عيسى أن أخطاء سياسات عثمان كانت ناتجة عن ثقته فمن لا يستحق الثقة ونتيجة لعدم خبرته السياسية فهو ليس عمر الحازم الصارم، ولا أبا بكر الذي أنقذ الدولة الوليدة في حروب الردة.
#iRead_reviews