تتحدث رواية الكرنك عن الفترة ما بين حربين - حرب النكسة و حرب التحرير - وما بينهما من فضيحة فساد المخابرات المصرية وما نتج عنها من الاتهامات التي تلقى جزافاً، وما أصاب متلقيها من التعذيب، وخاصة الشباب.
إنها أولى رحلاتي مع الأديب القدير نجيب محفوظ، لا أعلم كيف وقع اختياري على هذه الرواية، هل أنا من اخترتها أم هي من اختارتني؟
ما أستطيع قوله أنّ صفحاتها السبع والثمانون أسرتني برسالتها
وأحداثها. هذه الرواية القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في ديسمبر 1971 مسلطا الضوء
على فترة ما بين النكسة والتحرير والاستبداد الذي ساد البلاد في فترة حكم جمال عبد
الناصر كاشفا فساد أجهزة المخابرات وما كان ينوله أبناء ثورة يوليو من اعتقالات
وتعذيب وتنكيل، وهذا كله يظهر من خلال أربعة فصول معنونة بأسماء أبطالها.
هؤلاء الأبطال الذين كانوا يجتمعون في مقهى الكرنك حيث نجلس
معهم ونستمع إلى أحاديثهم وقصصهم بكل إصغاء، هذا المقهى الذي احتل عنوان الرواية
فهو قد يأخذك باسمه إلى المعابد الفرعونية التي تدل على عظيم وقوة مصر التاريخية
ومما لا شك فيه تلك الرمزية التي تدل على الفكر والثقافة والأدب، فالمقهى هو مكان
ينبض بالتنوع الثقافي والفكري حيث الآراء تتوافق أو تتضارب، حيث الكثير من القصص
والحكايات التي تقبع خلفها خفايا الحقائق.
رغم بساطة الطرح والعرض والوصف إلا أنك ستشعر بعمق السرد وأصالة الرسالة وهذا ما يجعلني أصف هذا الرواية القصيرة بالسهل الممتنع، فحين تقرأ عن تعذيب جهاز المخابرات لأبطالنا ستلاحظ أن نجيب وصف ذلك بشكل مبسط إلا أنه في الوقت ذاته سيجبرك على أن تتخيل فظاعة المشهد وقساوته، لتدرك لاحقا أن ما خطه نجيب من حكايات في مقهى الكرنك هي بالفعل حكايات نجدها في كل ثورة وكل بلد يثور شبانه على الحكم المستبد، فنشهد حماسهم ثم تثبيطهم وإسقاطهم من قبل تلك السلطة الديكتاتورية الفاسدة، وهكذا يتحولون من قمة ثورتهم ووطنيتهم إلى قاع الفساد والهوان بسبب عنجهية تلك الأجهزة والأنظمة.
نبدأ في الحديث عن فصول الرواية:
الفصل الأول والذي كان بعنوان قرنفلة، وهي راقصة معتزلة صاحبة المقهى، أربعينية، نحيلة ورشيقة يوحى عودها بالنشاط والحيوية وتمتاز بقوة مهذبة اكتسبتها من التجربة والعمل.
قرنفلة تحب أحد زبائن المقهى الشاب أحمد حلمي، لكن لسوء الحظ أنه لا يبادلها نفس الشعور، يذكر أنه يعتقل عدة مرات بتهمة أنه شيوعي وعلى أثر ذلك يتم تعذيبه ويموت في النهاية.
في هذا الفصل نستمع لأحاديث أهل المقهى عن الثورة وتبدأ أحداث روايتنا تأخذ حيزها حين يلحظ رواد المقهى غياب البعض عن الارتداد للمقهى ليدركون لاحقا أن امتناعهم هذا كان سببه الاعتقال.
الفصل الثاني والذي كان بعنوان إسماعيل الشيخ وهو شاب من حي فقير من حارة دعبس بالحسينية يدرس الحقوق، لقد كان صديقا لحمادة حلمي، تم اعتقاله ثلاث مرات على خلفيات مختلفة. الأولى اتهم أنه من الأخوان حيث تم تعذيبه ولكن خرج لاحقا من السجن بعد تبرئته. والثانية بتهمة أنه شيوعيا حيث لم يكن كصديقه حلمي ولكن بسب التعذيب وتهديده بحبيبته زينب التي اعتقلت أيضا اعترف بتهمة لا صحة لها من الوجود وهكذا خرج من السجن لكن هذه المرة كان لابد من دفع الثمن، ثمن ماذا! لكل شيء ثمن وثمن الثورة باهظ جدا وهذا ما ارتكبه جهاز المخابرات بحق إسماعيل فقد أرغموه على العمل معهم كجاسوس ضد من يشكون في ثورته تلك الثورة التي باتت السلطة الديكتاتورية ترسم نهجها وفقا لمصلحتها وحسب ما يناسب عرفها، وتحت الابتزاز والتهديد من قبل إسماعيل.
سرعان ما تم سجنه للمرة الثالثة بسبب عدم الإبلاغ عن صديقه حمادة حلمي.
أما الفصل الثالث فبطلته زينب دياب ذات الوجه الخمري وجسمها القوي الرشيق، كبرت في نفس الحي الذي كبر فيه إسماعيل فهما نشآ معا ونشأ وكبر بينهما حب كبير لكنه كان مقيد بسبب بعض العادات والتقاليد إلا أن المرحلة الجامعية قللت من هذه القيود.
لقد تم اعتقال زينب مرتين الأولى بسبب قربها من إسماعيل وخرجت سليمة من السجن، أما المرة الثانية فكانت تهمتها الشيوعية وهذا المرة لم تسلم زينب من فساد هذه الأجهزة فقد تم انتهاك عرضها وتعذيبها أشد ما يمكن أن تتعرض له المرأة، وبعد ما فقدت كل شيء فعلوا ما فعلوه مع إسماعيل أيضا أجبروها على التعاون معهم ونقل التقارير لهم، وهي التي نقلت أخبار حلمي لهم فكانت سببا في اعتقاله ثم مقتله لاحقا.
زينب الفتاة التي حولتها أجهزة الفساد إلى فتاة تحترف البغاء قابعة في ظلام القاع، تلك الخيانات المتعددة كشفتها لإسماعيل بطريقتها المبتكرة، وبعدها انقطع الحب بينهم.
وأخيرا الفصل الرابع حيث نتحدث عن أحد أعمدة الفساد في السلطة الاستبدادية، معذب من تحدثنا عنهم سابقا، إنه خالد صفوان من يدعي أنه من رجال الثورة وحماتها، هؤلاء الذين لا يعرفون من الثورة الحقة إلا اسمها، يزيفون قيمها ومبادئها لتتماشى مع أهوائهم ومصالحهم، هو رمز للفساد الذي مارسته الدولة بحق شعبها، اشتهر بفنونه بالتعذيب والتنكيل للمعتقلين والمعتقلات، ولاحقا تم سجنه إلى جانب ضحاياه وبعد ثلاث سنوات خرج من السجن كما دخله، كان برتاد الكرنك ويلتقي هناك بضحاياه، يحدثهم بكل تنظير عن فلسفته التي تعلمها من أعماق الجحيم.
وبعدها نصل لنهاية الرواية في المكان الذي بدأنا منه
هنا الكرنك حيث يجمع الناس العذاب المشترك
حيث تستمع لقصص كانت حياة أصحابها تعج بالحياة حتى أهلكتهم عتمة الفساد وباتوا يعيشون تحت راية الذل والهوان والخيانة.
كيف السبيل للحفاظ على ثورتك حرة في وسط نظام يشوبه القهر والظلم.
الكرنك هو مقهى تجده في كل بلد عربي يتعطش شعبه لثورة عادلة نقية وتتعطش حكومته لقهره واستبداده.
الكرنك رواية خطها محفوظ منذ زمن لكنها تعايش حاضرنا وواقعنا الأمل ذاته والفساد عينه
الكرنك التقاء الماضي بالحاضر.
انتهت
بقلم رزان عوض أبوسرحان
المرة الأولى التي أقرا فيها لنجيب ولن تكون الأخيرة.
إنها أولى رحلاتي مع الأديب القدير نجيب محفوظ، لا أعلم كيف وقع اختياري على هذه الرواية، هل أنا من اخترتها أم هي من اختارتني؟
ما أستطيع قوله أنّ صفحاتها السبع والثمانون أسرتني برسالتها
وأحداثها. هذه الرواية القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في ديسمبر 1971 مسلطا الضوء
على فترة ما بين النكسة والتحرير والاستبداد الذي ساد البلاد في فترة حكم جمال عبد
الناصر كاشفا فساد أجهزة المخابرات وما كان ينوله أبناء ثورة يوليو من اعتقالات
وتعذيب وتنكيل، وهذا كله يظهر من خلال أربعة فصول معنونة بأسماء أبطالها.
هؤلاء الأبطال الذين كانوا يجتمعون في مقهى الكرنك حيث نجلس
معهم ونستمع إلى أحاديثهم وقصصهم بكل إصغاء، هذا المقهى الذي احتل عنوان الرواية
فهو قد يأخذك باسمه إلى المعابد الفرعونية التي تدل على عظيم وقوة مصر التاريخية
ومما لا شك فيه تلك الرمزية التي تدل على الفكر والثقافة والأدب، فالمقهى هو مكان
ينبض بالتنوع الثقافي والفكري حيث الآراء تتوافق أو تتضارب، حيث الكثير من القصص
والحكايات التي تقبع خلفها خفايا الحقائق.
رغم بساطة الطرح والعرض والوصف إلا أنك ستشعر بعمق السرد وأصالة الرسالة وهذا ما يجعلني أصف هذا الرواية القصيرة بالسهل الممتنع، فحين تقرأ عن تعذيب جهاز المخابرات لأبطالنا ستلاحظ أن نجيب وصف ذلك بشكل مبسط إلا أنه في الوقت ذاته سيجبرك على أن تتخيل فظاعة المشهد وقساوته، لتدرك لاحقا أن ما خطه نجيب من حكايات في مقهى الكرنك هي بالفعل حكايات نجدها في كل ثورة وكل بلد يثور شبانه على الحكم المستبد، فنشهد حماسهم ثم تثبيطهم وإسقاطهم من قبل تلك السلطة الديكتاتورية الفاسدة، وهكذا يتحولون من قمة ثورتهم ووطنيتهم إلى قاع الفساد والهوان بسبب عنجهية تلك الأجهزة والأنظمة.
نبدأ في الحديث عن فصول الرواية:
الفصل الأول والذي كان بعنوان قرنفلة، وهي راقصة معتزلة صاحبة المقهى، أربعينية، نحيلة ورشيقة يوحى عودها بالنشاط والحيوية وتمتاز بقوة مهذبة اكتسبتها من التجربة والعمل.
قرنفلة تحب أحد زبائن المقهى الشاب أحمد حلمي، لكن لسوء الحظ أنه لا يبادلها نفس الشعور، يذكر أنه يعتقل عدة مرات بتهمة أنه شيوعي وعلى أثر ذلك يتم تعذيبه ويموت في النهاية.
في هذا الفصل نستمع لأحاديث أهل المقهى عن الثورة وتبدأ أحداث روايتنا تأخذ حيزها حين يلحظ رواد المقهى غياب البعض عن الارتداد للمقهى ليدركون لاحقا أن امتناعهم هذا كان سببه الاعتقال.
الفصل الثاني والذي كان بعنوان إسماعيل الشيخ وهو شاب من حي فقير من حارة دعبس بالحسينية يدرس الحقوق، لقد كان صديقا لحمادة حلمي، تم اعتقاله ثلاث مرات على خلفيات مختلفة. الأولى اتهم أنه من الأخوان حيث تم تعذيبه ولكن خرج لاحقا من السجن بعد تبرئته. والثانية بتهمة أنه شيوعيا حيث لم يكن كصديقه حلمي ولكن بسب التعذيب وتهديده بحبيبته زينب التي اعتقلت أيضا اعترف بتهمة لا صحة لها من الوجود وهكذا خرج من السجن لكن هذه المرة كان لابد من دفع الثمن، ثمن ماذا! لكل شيء ثمن وثمن الثورة باهظ جدا وهذا ما ارتكبه جهاز المخابرات بحق إسماعيل فقد أرغموه على العمل معهم كجاسوس ضد من يشكون في ثورته تلك الثورة التي باتت السلطة الديكتاتورية ترسم نهجها وفقا لمصلحتها وحسب ما يناسب عرفها، وتحت الابتزاز والتهديد من قبل إسماعيل.
سرعان ما تم سجنه للمرة الثالثة بسبب عدم الإبلاغ عن صديقه حمادة حلمي.
أما الفصل الثالث فبطلته زينب دياب ذات الوجه الخمري وجسمها القوي الرشيق، كبرت في نفس الحي الذي كبر فيه إسماعيل فهما نشآ معا ونشأ وكبر بينهما حب كبير لكنه كان مقيد بسبب بعض العادات والتقاليد إلا أن المرحلة الجامعية قللت من هذه القيود.
لقد تم اعتقال زينب مرتين الأولى بسبب قربها من إسماعيل وخرجت سليمة من السجن، أما المرة الثانية فكانت تهمتها الشيوعية وهذا المرة لم تسلم زينب من فساد هذه الأجهزة فقد تم انتهاك عرضها وتعذيبها أشد ما يمكن أن تتعرض له المرأة، وبعد ما فقدت كل شيء فعلوا ما فعلوه مع إسماعيل أيضا أجبروها على التعاون معهم ونقل التقارير لهم، وهي التي نقلت أخبار حلمي لهم فكانت سببا في اعتقاله ثم مقتله لاحقا.
زينب الفتاة التي حولتها أجهزة الفساد إلى فتاة تحترف البغاء قابعة في ظلام القاع، تلك الخيانات المتعددة كشفتها لإسماعيل بطريقتها المبتكرة، وبعدها انقطع الحب بينهم.
وأخيرا الفصل الرابع حيث نتحدث عن أحد أعمدة الفساد في السلطة الاستبدادية، معذب من تحدثنا عنهم سابقا، إنه خالد صفوان من يدعي أنه من رجال الثورة وحماتها، هؤلاء الذين لا يعرفون من الثورة الحقة إلا اسمها، يزيفون قيمها ومبادئها لتتماشى مع أهوائهم ومصالحهم، هو رمز للفساد الذي مارسته الدولة بحق شعبها، اشتهر بفنونه بالتعذيب والتنكيل للمعتقلين والمعتقلات، ولاحقا تم سجنه إلى جانب ضحاياه وبعد ثلاث سنوات خرج من السجن كما دخله، كان برتاد الكرنك ويلتقي هناك بضحاياه، يحدثهم بكل تنظير عن فلسفته التي تعلمها من أعماق الجحيم.
وبعدها نصل لنهاية الرواية في المكان الذي بدأنا منه
هنا الكرنك حيث يجمع الناس العذاب المشترك
حيث تستمع لقصص كانت حياة أصحابها تعج بالحياة حتى أهلكتهم عتمة الفساد وباتوا يعيشون تحت راية الذل والهوان والخيانة.
كيف السبيل للحفاظ على ثورتك حرة في وسط نظام يشوبه القهر والظلم.
الكرنك هو مقهى تجده في كل بلد عربي يتعطش شعبه لثورة عادلة نقية وتتعطش حكومته لقهره واستبداده.
الكرنك رواية خطها محفوظ منذ زمن لكنها تعايش حاضرنا وواقعنا الأمل ذاته والفساد عينه
الكرنك التقاء الماضي بالحاضر.
انتهت
بقلم رزان عوض أبوسرحان
المرة الأولى التي أقرا فيها لنجيب ولن تكون الأخيرة.